في خلاصة نقاشات لجنة المال والموازنة يوم أمس الاثنين 18 تموز، يمكن القول أنّ اللجنة تمكنت من تفكيك مجموعة من الألغام التي حاول ممثلو جمعيّة المصارف ومصرف لبنان زرعها في مسودّة مشروع القانون، التي أرسلتها الحكومة إلى المجلس النيابي. في النتيجة، لم يخلُ مشروع القانون كما أقرّته اللجنة يوم أمس من الثغرات والشوائب، التي يُفترض أن يتم التصويت عليها بندًا بندًا في اللجان المشتركة والهيئة العامّة، بعد إبداء بعض النوّاب اعتراضات عليها. لكنّ الأكيد أن أخطر أفخاخ جمعيّة المصارف ومصرف لبنان، المتعلّق بمنع “رفع السريّة بمفعول رجعي”، قد سقط من مشروع القانون بصيغته الراهنة، بعد أن جابه اعتراضات شرسة من بعض النواب داخل اللجنة.
وبعد المصادقة على مشروع القانون في جلسة اللجنة يوم أمس، من المفترض أن يحط سريعًا على جدول أعمال جلستي اللجان المشتركة والهيئة العامّة المقبلتين، إلى جانب مشروع قانون قرض البنك الدولي المخصّص لشراء القمح، ومشروع قانون الكابيتال كونترول الذي يُفترض أن يعاد طرحه على جناح السرعة خلال الأيّام المقبلة. ومع ذلك، تبقى الخشية اليوم من محاولات إعادة تفخيخ تعديلات قانون السريّة المصرفيّة، من بوّابة إعادة التصويت على الملاحظات التي لم يتم إقرارها في اللجنة. ولهذا السبب، لا يمكن التفاؤل بإسقاط بند “منع المفعول الرجعي”، إلّا بعد تمرير مشروع القانون كما هو ومن دون هذا البند، في الهيئة العامّة للمجلس.
مناورات جمعية المصارف والمصرف المركزي
كما هو المعلوم، انطلقت جمعيّة المصارف ومصرف لبنان في نقاشهما داخل المجلس النيابي من سقف مرتفع، وموقف متشنّج، يرفض تعديل قانون سريّة المصارف من حيث المبدأ، ويطرح أسئلة حول الغايات الفعليّة من هذه التعديلات. لكن مع انطلاق قاطرة النقاشات داخل اللجنة الفرعيّة، أدرك ممثلو المصرف المركزي وجمعيّة المصارف صعوبة الإطاحة بالتعديلات، أو دفنها في أدراج لجنة المال والموازنة، لكون التعديلات مطلوبة من ضمن التفاهم المعقود على مستوى الموظفين مع صندوق النقد الدولي. وهنا، انتقل ممثلو المصرف المركزي وجمعية المصارف إلى محاولة حصر نطاق رفع السريّة المصرفيّة إلى أقصى حد، عبر محاولة تمرير بنود مفخخة، كما يجري في العادة عند إقرار قوانين “إصلاحيّة” تحت وطأة الضغط الدولي أو الخارجي.
هنا، أشهرت جمعيّة المصارف بدعة منع المفعول الرجعي. فالمصارف اعتبرت أن أي رفع للسريّة المصرفيّة عن داتا الحسابات التي يسبق تاريخها تاريخ إقرار القانون، سيمثّل تشريعاً بمفعول رجعي، وهو ما ينطوي على مخالفة دستوريّة حسب اجتهاد الجمعيّة. ولهذا السبب، طالب ممثل الجمعيّة، مع ممثل مصرف لبنان، بتضمين مشروع القانون بنداً يمنع الكشف عن داتا الحسابات المصرفيّة التي يسبق تاريخها تاريخ إقرار القانون، وهو ما من شأنه الحؤول دون كشف أي مخالفات مصرفيّة أو جرائم ماليّة أو حالات تهرّب ضريبي حصلت في الماضي. بمعنى آخر، سيكون مقترح جمعيّة المصارف أشبه بعفو صريح عن كل الارتكابات السابقة.
هذا الاجتهاد بحد ذاته، خالف جميع الاستشارات القانونيّة التي قام بها العديد من النواب الذين حضروا نقاشات اللجنة الفرعيّة، والتي أكّدت بأن مشروع القانون المطروح لا يحمل أي “تشريع جزائي بمفعول رجعي”، على النحو الذي يتعارض مع الدستور (إشكاليّة المفعول الرجعي تكمن فقط عند التشريع الجزائي). ولذلك، لا يوجد ما يوجب إضافة البند الذي تطالب به جمعيّة المصارف، أي بند منع المفعول الرجعي.
وبصورة أدق، لا ينص مشروع القانون على تجريم أي مسائل كانت مشروعة في الماضي، ولا يشدد عقوبة أي أفعال حصلت في المراحل السابقة. بل ينص مشروع القانون على إعطاء سلطات مختصّة صلاحيّات رفع السريّة المصرفيّة في المستقبل، بما يشمل كل داتا المصارف بمعزل عن تاريخها، وهو ما لا يحمل في طيّاته أي “تشريع جزائي رجعي” بالمفهوم الذي تشير إليه الجمعيّة. أمّا البند الجزائي الوحيد الذي يتضمنه مشروع القانون، فيرتبط بعقوبة عدم تقديم المعلومات المصرفيّة للسلطات المختصة عند طلبها في المستقبل، وهذا لا يرتبط بأي فعل سابق لتاريخ إقرار القانون.
باختصار، وحسب هذه الاستشارات القانونيّة، ارتكبت جمعيّة المصارف مغالطة قانونيّة كبيرة حين أطلقت عبارة “المفعول الرجعي” على تعديل آليّات رفع السريّة المصرفيّة عن جميع الحسابات والعمليّات المصرفيّة (السابقة واللاحقة لإقرار القانون)، طالما أن مشروع القانون يُعنى بإجراءات رفع السريّة المعتمدة التي ستُعتمد لاحقًا، لا مُجازاة أفعال سبقت إقرار القانون. أمّا عمليّات تبييض الأموال والإثراء غير المشروع والتهرّب الضريبي والمخالفات المصرفيّة، التي حصلت سابقًا والتي سيكشفها رفع السريّة المصرفيّة، فعقوباتها موجودة أساسًا في القوانين النافذة اليوم، ولا يوجد أي تشريع جزائي جديد بخصوصها.
سقوط البدعة
هكذا، تسلّحت مجموعة من النوّاب التغييريين بهذه الاستشارات القانونيّة، ودخلوا جلسة لجنة المال والموازنة يوم أمس الإثنين، والتي كانت مخصصة للبت بالصيغة النهائيّة لمشروع القانون. أمّا الهدف الأساسي، فتمثّل في إسقاط بند “منع المفعول الرجعي”، وهو ما حصل بالفعل.
النائب ابراهيم منيمنة وصف مجريات الجلسة في بيانه، الذي أشار إلى أنّ النقاش أفضى إلى “فرض عدم تضمين مشروع القانون أي بند من هذا النوع (أي منع “المفعول الرجعي”)، ما يسمح للقضاء والسلطات الضريبيّة ولجنة الرقابة على المصارف الاطلاع على الداتا المصرفيّة بمعزل عن تاريخها، حتّى لو سبقت تاريخ إقرار القانون”. وعن أهميّة فرض مشروع القانون بهذه الصيغة، أشار بيان منيمنة إلى أنّ ذلك سيسمح “بمكافحة وملاحقة التهرّب الضريبي والجرائم الماليّة والمخالفات المصرفيّة التي جرت وستجري في كل التواريخ السابقة واللاحقة، فيما كان مقترح جمعيّة المصارف سيعني إجراء عفو مالي شامل عن كل الارتكابات التي حصلت في الماضي”.
كما أشار بيان منينمة إلى حصول سجال حول مسألة الحسابات والخزائن المرقمة، والتي عادةً ما يتم تسجيلها تحت أرقام معيّنة لإخفاء هويّة أصحابها الفعليين، حيث طالب منيمنة بإلغاء هذا النوع من الحسابات والخزائن عملًا بمعايير الامتثال العالميّة المتبعة. فإلغاء هذا النوع من الحسابات والخزائن سيسمح برأي منيمنة “بمكافحة تبييض الأموال وإخفاء الثروات غير المشروعة، والتي غالبًا ما تجد بيئة حاضنة في هذا النوع من الحسابات”. وفي حصيلة النقاش، تم الاتفاق على تقديم مقترح بخصوص هذا البند إلى الهيئة العامّة، ليتم التصويت عليه إلى جانب مشروع القانون بصيغته الراهنة. كما تم الاتفاق خلال نقاشات لجنة المال والموازنة على تشديد عقوبة عدم الامتثال للقانون، عبر إضافة العقوبات المنصوص عليها في قانون مكافحة تبييض الأموال، بدل الاكتفاء بالغرامة الماليّة كما نصّت صيغة مشروع القانون التي أرسلتها الحكومة للمجلس النيابي.
كنعان: سنضيف تعليقات مصرف لبنان إلى تقريرنا
إثر الجلسة أعلن رئيس لجنة المال والموازنة إبراهيم كنعان أن اللجنة سترفع إلى الهيئة العامّة للمجلس تقريراً بالتعديلات التي تم التفاهم عليها في الجلسة، بالإضافة إلى ملاحظات مصرف لبنان ونقابة المحامين التي لم يتم البت بها. كما أشار كنعان إلى أن عمليّة إعادة صياغة التعديلات المتفق عليها ستستغرق مهلة تتراوح بين يومين وثلاثة أيام، لإضافة الضوابط والجهات المخولة رفع السريّة المصرفيّة وآليّات رفع السريّة. وهكذا، ترك كنعان الباب مفتوحًا أمام تبنّي الهيئة العامّة للمجلس لاحقًا بعض الملاحظات التي أوردها مصرف لبنان، من دون أن يتم تبنيها في الصيغة المتفق عليها في لجنة المال والموازنة، وهو ما يثير اليوم بعض المخاوف من إمكانيّة تضمين مشروع القانون بعض الأفخاخ مجددًا عند التصويت عليها في الهيئة العامّة. مع الإشارة إلى أنّ كنعان لم يقدّم أي إيضاحات بخصوص ملاحظات مصرف لبنان التي يتحدّث عنها.
لكل هذه الأسباب، من غير الممكن الابتهاج بأي خطوة تم تحقيقها في لجنة المال والموازنة بخصوص مشروع القانون وتعديلات السريّة المصرفيّة، قبل التأكّد من تمرير ما تم تحقيقه في الهيئة العامّة للمجلس النيابي، خصوصًا أن باب الملاحظات المطروحة على هامش مشروع القانون مازال مشرّعًا كما أعلن النائب إبراهيم كنعان نفسه. وبانتظار التصويت على مشروع القانون في الهيئة العامّة، ستكون الأنظار شاخصةً على مناقشات مشروع قانون الكابيتال الكونترول، الأكثر إثارة للجدل لاتصاله بحقوق المودعين والقيود على عمليّاتهم. هنا، ستنقلب الآية تمامًا، وبخلاف حالة تعديلات قانون سريّة المصارف، ستكون جمعيّة المصارف في طليعة المتحمّسين لإقرار مشروع القانون هذا بأي ثمن.