تمويل مصرف لبنان للدولة بالدولار… تضليل وتزوير

ما من وثائق رسمية نهائية مدققة تحصي حجم تمويل مصرف لبنان للدولة بالدولار، وما إذا كان ذلك صحيحاً، محاسبياً وقانونياً، أم لا. الأقاويل كثيرة والتأويلات أكثر، في ظل غياب أي حقيقة ثابتة يمكن الركون إليها حتى تاريخه.

فالضبابية كاملة رغم احتدام النقاش والادعاءات، لا سيما بين صفوف المصرفيين ومريدي حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وحماته، حول هذه النقطة لتبرير تبخر الودائع، ثم تحميل الدولة ذلك العبء الثقيل، مقابل اعفاء المصارف ومصرف لبنان من اختفاء نحو 100 مليار دولار!

في الأثناء، هناك روايات متناقضة تصدر عن حاكم مصرف لبنان، بأرقام مختلفة في كل مرة يتحدث فيها عن هذا الأمر العالق… والمثير!

إستفاق من الإنكار وزعم تمويلاً بنحو 63 ملياراً

في 21 حزيران الماضي، وفي حوار تلفزيوني مع قناة «أل بي سي آي»، قال سلامة ما يلي: «أحصينا أين ذهبت دولارات البنك المركزي، وكيف صرفت، لمصلحة الدولة، بموجب قوانين. فالإحصائية تغطي 10 سنوات (2010-2021)، وفيها ما يلي:

24.5 مليار دولار للطاقة واستيراد المحروقات وكهرباء لبنان،

8.3 مليارات دولار للقطاع العام وتحديداً اعتماداته وتحويلاته المختلفة بالدولار،

7.5 مليارات لتمويل الاستيراد لا سيما الدعم،

7.4 مليارات تكبدها مصرف لبنان جراء حمله لسندات يوروبوند (دين على الدولة بالعملة الاجنبية).

وأضاف: يبلغ اجمالي ما سبق 47.8 مليار دولار، تضاف اليه كلفة الفوائد بقيمة 14.8 ملياراً، ليصل الإجمالي الى نحو 62.67 مليار دولار، برأيه.

ميزانية مصرف لبنان: صفر تمويل للدولة بالدولار

في المقابل، واذا نظرنا الى ملخص ميزانية مصرف لبنان، المصدر والمنشور مرتين شهرياً، لا نجد أثراً البتة لما يزعمه الحاكم لزوم تشويش الرأي العام أكثر مما هو مشوش. فمقابل بند اقراض البنك المركزي بالدولار للدولة هناك «صفر» على الدوام (صفر دولار!). وفي بند سندات اليوروبوند نحو 5 مليارات فقط. أما في بند سندات الخزينة بالليرة، فهناك نحو 62 ألف مليار ليرة، قيمتها حالياً 1.6 مليار دولار على سعر 38 ألف ليرة للدولار، وكانت القيمة 41 مليار دولار على سعر 1500 البائد.

وفق سلامة الدين العام 159 مليار دولار!

إذا كان صحيحاً ما يقوله سلامة، فان إجمالي ما اقرضه «المركزي» للدولة (بالدولار والليرة بسعر ما قبل الأزمة) سيصبح 104 مليارات دولار، بينما إجمالي ذلك الدين كله أقل من ذلك. وفيه لغير البنك المركزي 55 ملياراً هي للمصارف المحلية وحملة السندات الأجانب، وجهات ودولة مقرضة أجنبية وعربية. بكلام آخر، ومع الخلط، المقصود وغير الحميد، الذي يمارسه البنك المركزي بين الليرة والدولار، فان الدين العام اللبناني سيصبح 159 مليار دولار، بينما هو في حقيقة الأرقام الرسمية أقل من 100 مليار بما في ذلك الدين بالليرة على سعر 1500 للدولار.

في 2020 كان الادعاء 16 مليار دولار فقط

في التفتيش المستمر، والذي سيستمر الى ما شاء الله قبل صدور نتائج التدقيق الجنائي النهائي في حسابات مصرف لبنان، هناك وثيقة، هي عبارة عن رد من حاكم البنك المركزي على حكومة حسان دياب في شباط 2020، حول الواقع الاقتصادي والمالي والنقدي والمصرفي، وفيها رأي للبنك المركزي بالاجراءات التي كانت حكومة دياب تخطط لاتخاذها لا سيما احصاء الخسائر تمهيداً لتوزيعها.

تلك الورقة المفصلة بجداول واحصاءات تاريخية، ورد على صعيد مطالبة مصرف لبنان للدولة ما يلي حرفيته: «من الجدير ذكره قيام مصرف لبنان، بناء على اتفاقية بينه وبين وزارة المالية بتسديد مستحقات بالعملة الاجنبية مجموعها التراكمي لغاية 31 كانون الثاني 2020 حوالى 16 مليار دولار، على الوزارة تسديدها لمصرف لبنان». ولو أضيفت مبالغ الدعم، التي تكبدها لاحقاً، لبقي الرقم نحو ثلث ما زعمه سلامة في حزيران الماضي انه اقرضه للدولة أو مول حاجتها به. فكيف لسلامة القفز بالرقم على هذا النحو البهلواني؟

كان يعيش الإنكار… ثم صحا على نيران تطوّقه

يذكر آنذاك (أوائل 2020) أن رياض سلامة كان يعيش الإنكار كاملاً، رافضاً الاعتراف بخسائره. إذ أكد في الورقة المذكورة «ان فرضية الخسارة غير صحيحة. ويجدر التوضيح ان المقاربة المحاسبية الواجب اتباعها بما خص المصارف المركزية عامة، وليس فقط مصرف لبنان، تختلف عن التي ينبغي اتباعها للشركات والمصارف ذات الطابع التجاري، نظراً الى اختلاف طبيعة عملها ودورها واهدافها. المصارف المركزية عامة تتمتع مثلاً بامتياز الـ SEIGNIORAGE المتعدد المصادر. وضمن هذا السياق يجدر ذكر ان المقاربة والأطر المحاسبية التي يتبعها مصرف لبنان هي بالاستناد الى قرارات مجلسه المركزي».

ويتضح مما سبق أنه كان مستمراً في انكار ما فعلت يداه وبالتالي، لم يرد في ورقته أي ذكر للخسائر التي مني بها، ولا لما تحدث عنه في حزيران الماضي عن تمويل بأكثر من 62 مليار دولار. بيد انه بعد اكثر من سنتين بدأ يصحو ليجد النيران تطوقه لا سيما اتهامه هو والمصارف دون غيرهما بتبديد ودائع الناس. فشرع بهجوم مضاد مفاده ان الدولة اهدرت الاموال ليبرئ ذمته… لكن هيهات! فالخلط بين الليرة والدولار مفضوح في ما ذكره سلامة لجهة تمويل الدولار (بالدولار) بأكثر من 62 ملياراً، فهو يخلط عمداً بين تمويلين بعملتين مختلفتين. فصحيح ان مصرف لبنان يحمل سندات دين قيمتها نحو 62 ألف مليار ليرة، لكن ذلك بعملة لديه قدرة طباعتها، وهي ليست حتماً بالدولار الذي يبحث المودعون عنه منذ 3 سنوات ولا يجدون له اثراً.

كهرباء لبنان وما أدراك ما كهرباء لبنان؟!

وعندما تأتي ورقة مصرف لبنان الرسمية تلك على ذكر كلفة كهرباء لبنان، نجد ما يلي: «كلفت شركة كهرباء لبنان الدولة أكثر من 35 مليار دولار بين 2000 و2019 ضمناً». انه هو يتحدث عن «الدولة» بشكل صريح لا لبس فيه، وليس عن مصرف لبنان! فكيف له بعد ذلك أن يقحم تمويل الكهرباء ضمن ما يدعي أنه تمويل من «المركزي» للدولة؟

وفي الجداول الرسمية المرفقة بلغت سلفات الخزينة للكهرباء (بالليرة) للفترة المذكورة (2000- 2019) ما قيمته 22.39 مليار دولار فقط. أما الفارق فهو حساب فوائد (مفترضة) بنحو 13 ملياراً. وفي تلك المطالعة الطويلة لا أثر لتمويل مصرف لبنان لكهرباء لبنان. فالحقيقة هي ان سلفات الخزينة التي كانت تقر في الميزانيات العامة للدولة هي عبارة عن مبالغ بالليرة كانت تقايضها الدولة بدولارات من مصرف لبنان لزوم ما يتحدث عنه سلامة من مصروفات للطاقة واستيراد المحروقات وكهرباء لبنان. ومعظم تلك الدولارات متأتية من اصدارات يوروبوند كانت تطرحها الدولة وتضع حاصلها في مصرف لبنان، ثم يحصل استبدال بكل بساطة. وكان يمكن لمصرف لبنان رفض ذلك التمويل المزعوم كما فعل منذ 2020 عندما اوقف اعطاء دولارات لسد حاجة كهرباء لبنان، وتحديداً شراء الفيول. وطالب آنذاك بتوقيع عقد استقراض بينه وبين الدولة، فرفضت الأخيرة. فاذا كان الأمر عبارة عن قانون، كما يدعي سلامة، كان لزاماً عليه تطبيقه. اما وقد رفض، فانه طبق القاعدة الأصلية النافية لإجباره والفاضحة لادعائه.

الدولة مقرض صاف لمصرف لبنان بالدولار

على الصعيد عينه، جاء في دراسة موثقة للخبير الاقتصادي توفيق كسبار، في ما يتعلق باعتمادات مصرف لبنان بالدولار للحكومة، وبناء على أرقام رسمية موثقة من وزارة المالية، انها «لطالما كانت ضئيلة. واتخذت شكل سندات يوروبوند مملوكة من مصرف لبنان. وهي عبارة عن سندات تصدرها الحكومة بالعملات الاجنبية، وتكون عادة بالدولار الأميركي. والجانب اللافت في هذا الاقراض بالدولار المزعوم من مصرف لبنان للحكومة، بحسب كسبار، هو ان البنك المركزي لا يقرض الحكومة او يعطيها دولارات بل ليرات مقابل سندات يوروبوند. وأجرى مصرف لبنان تكراراً عمليات تبادل في السابق. حيث كانت وزارة المالية تصدر سندات يوروبوند جديدة مخصصة حصراً للبنك المركزي وبناء على طلبه، مقابل حيازاته من سندات الخزينة بالليرة اللبنانية. وخلال الفترة 2009-2019 بلغت قيمة التبادل هذه 17.5 مليار دولار في شكل سندات يوروبوند صادرة لمصلحة مصرف لبنان، مقابل سندات خزينة بقيمة موازية بالليرة اللبنانية. وفي الفترة نفسها، حول مصرف لبنان على نحو منفصل 13 مليار دولار الى الحكومة مقابل عمليات مختلفة (منها ما هو للكهرباء والفيول). وبالتالي، بلغ صافي حصيلة هذه العمليات بالدولار الأميركي 4.5 مليارات دولار منحتها الحكومة لمصرف لبنان. بعبارة أخرى، الحكومة هي التي كانت ممولة صافية لمصرف لبنان بالدولار وليس العكس».

الدعم سياسي شعبوي ولم يكن بقانون

أما حديثه عن الدعم، وكيف استهلك أكثر من 7 مليارات دولار، فذلك لم يكن بقانون كما يزعم. بل بمبادرة منه اطلقها في ايلول 2019، عندما أكد ان ما بقي لديه من دولارات سيخصصه لتغطية استيراد السلع والمواد الأساسية مثل القمح والأدوية والمحروقات. وكان سلامة أوائل أشهر الازمة يواجه ضغوطاً من رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة حسان دياب لعزله. واجه الضغوطات بشتى الطرق بينها مجاراته لشعبويات الدعم. وعندما خف الضغط وتراجعت حظوظ عزله، وبعدما تصدى لذلك اكثر من طرف مثل رئيس مجلس النواب نبيه بري ثم مجيء داعمه الآخر رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، أوقف سلامة معظم الدعم بسهولة شديدة ومن دون ان يرف له جفن، ما يدحض ويعري ادعاء ان الصرف على الدعم كان بقانون !اليوروبوند إستثمارات قبل ان تكون ديناً

أما ما يدعيه من خسارة في سندات اليوروبوند، فانه يغفل عمداً أيضاً أن ذلك يعد استثماراً بمخاطر قبل ان يكون ديناً عادياً واجب الوفاء تقابله ضمانات. فالمستثمرون يكتتبون بتلك السندات طمعاً بعوائدها. وتبلغ القيمة الاسمية لليوروبوند 31.4 مليار دولار موزعة بين حملة سندات أجانب (17 ملياراً) ومصارف محلية (بقي منها 9.3 مليارات)، ومصرف لبنان (5 مليارات) ومكتتبين آخرين. وتضاف اليها قيم الفوائد المعلقة السداد.

وبناء لإحصاءات البنك المركزي نفسه فان اجمالي القيمة الاسمية للدين العام بالعملات الأجنبية وتحديداً الدولار (يوروبوند وقروض اخرى) لا يزيد على 34-35 مليار دولار، فكيف يفسر سلامة الفارق بين الرقمين: 62.6 ملياراً كما ادعى تلفزيونياً انه اقرضها للدولة، وبين الرقم الذي يصدره عن الدين العام الاجمالي بالدولار وهو نحو نصف ما يدعي زوراً وبهتاناً؟

صمت مريب حكومياً وبرلمانياً… ليدوم الشك

تبقى الاشارة الى الصمت المريب الذي يلف الحكومة عموماً ويقص لسان وزارة المالية خصوصاً، حول هذه القضية المتروك الزعم والتأليف والتضليل والمناورة فيها لرياض سلامة ومريديه فقط دون غيرهم. علماً بأن على وزارة المالية قول كلمتها الفصل لأنها الأدرى بما استدانته سواء بالليرة او الدولار. أما صمت مجلس النواب فطامة كبرى. فسلامة يدعي صرف تلك الدولارات بقوانين. ما يعني ان مجلس النواب هو المسؤول الاول عن ابراء ذمته ومن دم الصديق وما اذا أقر تلك القوانين الهادرة لدولارات المودعين. الا انه صامت لا ينبث ببنت شفة. كيف لا ورئيسه من حماة سلامة الأشاوس ولا يريد فضحه… كي لا ترتد الفضيحة وتسربل الجميع ليس من زاوية الدين العام بل من زوايا ظل عفنة اخرى ما اكثرها… ولن يطول كتمانها طويلاً!

مصدرنداء الوطن - منير يونس
المادة السابقةبُشرى من وزير الزراعة إلى مزارعي التفاح
المقالة القادمةهجمة تسجيل عقارات قبل تطبيق الرسوم الجديدة