توزيع الخسائر: 50% على الدولة و25% مصرف لبنان و25% المصارف

لبنان ليس دولة مفلسة، بل متعثرة منذ اعلان حكومة حسان دياب التوقف عن دفع سندات اليوروبوندز، علماً بأن التعثر أتى من دون خطة، وكان قراراً خاطئاً، لا بل أكبر خطأ بتاريخ لبنان لأنه ضرب ملاءة المصارف التي كانت بحوزتها سندات بقيمة 15 مليار دولار، وهي من أموال المودعين. كان ذلك القرار بحجة الابقاء على الأموال الاجنبية لزوم حاجات الشعب اللبناني، لا سيما الغذائية والمحروقات.علماً بأنه كان لدى مصرف لبنان 34 مليار دولار، منها 20 ملياراً قابلة للاستعمال، وهو رقم يساوي الناتج المحلي. كان باستطاعة لبنان دفع استحقاق المليارين ونصف آنذاك مع تركيب خطة اقتصادية.

نتيجتان خطيرتان: هيركات على المودعين وفقدان الثقة بلبنان

أدى التعثر الى نتيجتين خطيرتين. كان لدى المصارف 15 ملياراً من اليوروبوندز، وبحوزة المستثمرين الخارجيين 12 ملياراً من تلك السندات بالاضافة الى 5 مليارات يحملها البنك المركزي.

عند التعثر، خسرت المصارف فوراً 15 ملياراً وهذا المبلغ من أموال المودعين ما يعني هيركات على الودائع بنحو 15 ملياراً، وهذا ما لم يقولوه للمودع. كما أن ذلك القرار وضع لبنان في قائمة الدول غير القادرة على الاقتراض او الاستدانة من الاسواق المالية، وفقدنا ثقة المستثمرين الخارجيين بلبنان.

17 ملياراً صرفت من دون أي خطة للنهوض الاقتصادي

كان لدى مصرف لبنان 20 ملياراً قابلة للاستعمال، لكن لم تستعمل من قبل الدولة لاعادة النهوض بالاقتصاد. بل صرف منها 17 ملياراً على دعم السلع ثم دعم سعر الصرف ودعم المصارف.

سلف مصرف لبنان للمصارف في تلك الفترة نحو7 الى 8 مليارات دولار لانها كانت مقترضة من بنوك عالمية على اساس ان لديها سندات بـ 15 ملياراً. عند توقف لبنان عن الدفع طالبت البنوك الاجنبية المصارف اللبنانية بسداد تلك القروض لأن رهن سندات اليوروبوندز لم يعد يساوي شيئاً. واستعملت هذه الاموال لتسديد Margin Call ودفع LC و LG، والدعم الذي كلف 10 مليارات منذ بداية الازمة.

الى ما سبق يمكن اضافة جملة أخطاء أخرى على صعيدي البنك المركزي والمصارف.

40-30 مليار دولار كلفة تثبيت سعر صرف الليرة

تاريخياً وقبل الازمة ارتكبت عدة أخطاء كبيرة. الاول تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار منذ 1997. وخطأ ذلك التثبيت لأن لبنان لا يملك قدرات اقتصادية قوية قادرة على تعزيز ودعم ثبات الليرة مقابل الدولار. كانت كلفة التثبيت بين 30 و40 مليار دولار، اقتطعت من احتياطيات مصرف لبنان ومن تراكم فوائض ميزان المدفوعات التي استمرت حتى 2011 ثم تحول الميزان الى عاجز بعد ذلك.

لم تتبع سياسة نقدية صارمة لمصلحة البلد، بل نفذت المطالب السياسية وفي ذلك كلفة ومخالفة للسياسات النقدية السليمة المتبعة في العالم، كما فيه مخالفة لقانون النقد والتسليف.

كثير من شرائح المجتمع استفادت من ثبات سعر الصرف وعاشت فوق طاقتها. لنأخذ مثال شخص كان راتبه أو دخله 4 الى 5 ملايين ليرة اي 3 الى 4 آلاف دولار، وهذ رقم خيالي في الخارج، خصوصاً اذا كان من دون ضرائب على الراتب أو الدخل.

وبفعل قوة الليرة ارتفع الاستهلاك وبالتالي الاستيراد وزاد معدل السفر وشراء العقارات والسيارات. لكن في الاقتصاد معادلة تقول «أن لا شيء مجاناً»! أي ما تستفيد منه اليوم تدفع ثمنه غداً. الكلفة الأخرى للتثبيت هي الحد من التصدير لأن كلفة الانتاج اصبحت مرتفعة. وعندما يتراجع التصدير يتأثر ميزان المدفوعات سلباً.

كان يمكن التثبيت لمرحلة قصيرة او متوسطة ثم تعويم سعر الصرف ليصبح سعر الدولار 6 او 7 آلاف ليرة، وبالتالي كان الاقتصاد تأقلم مع ذلك وتحملنا الأزمة، بخلاف ما حصل في السنتين الأخيرتين مع هبوط الليرة اكثر من 93% ودخول البلاد في مخاطر التضخم المفرط.

كلفة تمويل الدعم تاريخياً 30-35 ملياراً

الخطأ الثاني هو تمويل الدعم. فما من مادة في قانون النقد والتسليف تقر ذلك. الدعم هو من مهام وزارات مثل الاقتصاد والشؤون الاجتماعية وليس من مهام مصرف لبنان. كلفة ذلك الدعم كانت خارج الموازنة. ما يعني ان الموازنات التي تقر بعجز برقم معين لم تكن دقيقة. لا بل كان العجز مضاعفاً لو اضفنا ارقام الدعم الذي كانت كلفته على عاتق مصرف لبنان.

يجب التذكير بأن تفاقم العجز في الميزانية ( بين 3 و5 مليارات دولار سنوياً في السنوات الـ 15 الأخيرة قبل الأزمة) أسهم أيضاً في تدهور سعر الصرف: لتسكير العجز يضطر مصرف لبنان لطباعة العملة، تكبر الكتلة النقدية فيتأثر سعر الصرف ما يجبر مصرف لبنان على التدخل لدعم الليرة.. اي ما يشبه الحلقة الجهنمية المفرغة.

الى ذلك يضاف خطأ دعم السلع الذي لم يصل الى المحتاجين الا بنسبة 25% مقابل 50% للتهريب و25% للميسورين الذين لا يحتاجون أي دعم. كلفة ذلك 30 الى 35 مليار دولار صرفها مصرف لبنان خلال آخر 10-15 سنة.

كان على مصرف لبنان الاستجابة المحدودة لطلبات الدولة، أما انه استجاب لفترة زمنية طويلة وبرغبات سياسية فهذا كان خطأً أدخله في لعبة تضارب المصالح.

الافراط في اقراض الدولة خلق تجاوزاً خطيراً

الخطأ الثالث الذي يحكى عنه ايضاً هو ان مصرف لبنان أقرض الدولة. وهنا نتحدث عن 15 مليار دولار يقابلها 22 تريليون ليرة سددتها الدولة لمصرف لبنان مقابل ذلك الدين. لا أثر لذلك طالما سعر الصرف ثابت، أما الآن فيعتبر ذلك الرقم ضمن فجوة الخسائر على الدولة وسيظهر خطره عندما يتعوم سعر الصرف ثم يعتمد سعر موحد جديد كما يطلب صندوق النقد.

وعلى صعيد الاقراض ايضاً هناك سندات الخزينة بالليرة اللبنانية الذي اكتتب به مصرف لبنان والمصارف، وذلك ممكن بحدود معينة ولا يتعارض مع قانون النقد والتسليف، لكن كان يجب ألا يتخطى الدين السيادي للدولة نسبة 100% من الناتج المحلي. مع تجاوز تلك النسبة أصبحت المخاطر واضحة بقوة، لا بل وصلت الى 500% من الناتج من دون اكتراث الدولة ومصرف لبنان لهذا التجاوز الخطير.20 مليار دولار كلفة الهندسات المالية الى ذلك نضيف خطورة الهندسات المالية التي حصلت لأن ميزان المدفوعات كان سلبياً ولان المصارف كانت عاجزة عن جذب ودائع جديدة. اجرى مصرف لبنان اول هندسة مالية في 2016 ونجح فيها رغم كلفتها، لكن الفشل كان حليف الهندسات اللاحقة. كانت الكلفة الاجمالية نحو 20 مليار دولار منها ارباح للمصارف حوالى 12 ملياراً وزعت منها على مساهميها بين 5 و6 مليارات دولار. كانت تلك الارباح خيالية. كيف حصلت تلك الهندسات في ظل وجود المجلس المركزي لمصرف لبنان؟ هنا نتحدث عن مشكلة حوكمة. وماذا كان دور لجنة الرقابة على المصارف ولماذا تقاعست؟ وماذا عن المفوض الحكومي في مصرف لبنان الذي ترك كل ذلك يمر.

كل ذلك اوصلنا الى ما نحن فيه اليوم وأورث فجوة في مصرف لبنان بين 60 و70 مليار دولار ودين يتخطى 105 مليارات دولار على الدولة.

كانت المراهنات هي السائدة

كانت العقلية السائدة تراهن على ان غداً افضل على طريقة عمل المتداولين في الاسواق المالية في ظل غياب ادارات المخاطر التي عادة تركز على الربح المستدام وتعارض توجهات التداول المغامرة. في كل بنوك العالم صراع دائم بين اقسام المبيعات واقسام ادارات المخاطر.

خطر انكشاف المصارف بشكل كبير على مقترض واحد

اما اخطاء المصارف فهي عديدة ابرزها الدخول في الهندسات المالية بشكل زاد الانكشاف بالمخاطر على جهة اقتراض واحدة، SINGLE BORROWER EXPOSURE. كان يجب توزيع المخاطر على قاعدة عدم الانكشاف على جهة واحدة الا بنسبة 20 الى 30% فقط من رأس المال. فرساميل المصارف في 2018 كانت 21 مليار دولار، واشترت سندات يوروبوندز بـ 12 مليارا بدلاً من 6 مليارات لو طبقت أفضل الممارسات المصرفية. كما اودعت في البنك المركزي 75 مليار دولار اي اكثر 10 مرات مما لو كانت طبقت أفضل الممارسات. لماذا اقدمت المصارف على ذلك؟ ولماذا سمح لها البنك المركزي؟ ولماذا سمح المدققون الماليون الخارجيون بهذه العمليات الممتدة على سنوات طويلة؟… ما ادى الى مشكلات سيولة وملاءة في معظم البنوك بعد 17 تشرين 2019.

عدم المواءمة بين آجال الودائع وآجال توظيفها

كان ناتجنا المحلي 55 مليار دولار مقابل ودائع بنحو 150 ملياراً. ما من بلد في العالم باستطاعته توظيف 150 ملياراً من الودائع في اقتصاد حجمه 55 ملياراً فقط. افضل الممارسات كانت تقضي بتوظيف 75% فقط في الداخل والاسواق المالية. كان على القطاع المصرفي عدم قبول هذا القدر الهائل من الودائع والانجرار وراء تمويل مصرف لبنان والدولة.

هناك خطأ آخر ارتكبته المصارف هو عدم المواءمة بين الآجال: آجال الودائع مقابل آجال استثمارها. كان اجل الوديعة الأطول 12 شهراً متجدداً اما توظيفها في البنك المركزي فحصل على 5 الى 10 سنوات للافادة من الفوائد التي كان يعطى منها جزء اساسي للمودع.

مسؤولية المصرفيين

والجدير بالذكر ان المساهمين ومجالس الادارات المصرفية قد تكون لهم مسؤولية شخصية على اموالهم اذا تبين أن هناك مخالفات قانونية ومصرفية وادارية أدت الى الافلاس.

مسؤولية المودع

وهناك خطأ على المودع الذي لهث وراء الفوائد العالية ومخاطرها، لا سيما كبار المودعين العالمين والعارفين بالمخاطر في الاسواق المالية. ومع ذلك لا يمكن تحميل المودعين المسؤولية الاولى بتحمل الخسائر. بل هم الحلقة الاخيرة.

التسكير وأزمتا سيولة وملاءة

ان تسكير المصارف في 17 تشرين أول 2019 كان خطأ جسيماً Bank Run لأنه ضرب الثقة بالصميم.

لذا عندما هجمت الناس مع اندلاع الازمة لسحب ودائعها لم تستطع البنوك تلبية السحوبات. فوقعت في ازمة سيولة الى جانب مشكلة ملاءة متعلقة بخسائر اليوروبوندز والديون المتعثرة السداد وشهادات الايداع العالقة في البنك المركزي.

انها مسؤولية الدولة بالدرجة الأولى

جميع ما حصل هو نتيجة سياسة الدولة الخاطئة التي احتاجت الى تمويل واستعملت قدرات المصرف المركزي والمصارف لسد عجزها وحاجاتها المالية، وذلك لعدم وجود رؤية اقتصادية بل حاجات ومصالح سياسية بفساد وسوء ادارة تراكمت خلال السنوات العشرين الماضية. اليوم الدولة متعثرة ودينها 105 مليارات دولار لكن لديها اصول يمكن تطويرها وتحسينها. ولديها قدرة منح تراخيص وامتيازات لمشاريع جديدة يخولها سد الدين وخلق اقتصاد جديد مع نمو، واعادة هيكلة البنك المركزي الذي تملكه واحياء القطاع المصرفي الضروري لاعادة دورة العجلة الاقتصادية. ولذلك يجب وضع خطة اقتصادية توزع الخسائر اولاً بانصاف بين المثلث الذهبي: 50% على الدولة و25% مصرف لبنان و25% على البنوك وعدم المس قدر الامكان باموال المودعين، بعكس ما طرحته الحكومة على صندوق النقد في خطتها القائمة على الليلرة التي كانت زادت تدهور سعر الصرف وفاقمت التضخم وضربت القوة الشرائية وادت الى التملص من المحاسبة.

مصدرنداء الوطن - نيكولا شيخاني
المادة السابقةحمود: لا توحيد لسعر الصرف وتحريره قبل الحل المصرفي
المقالة القادمةتقديمات «الضمان» صالحة… لما قبل الأزمة