حرب التكنولوجيا: الصين مطوقة بمبيعاتها ووارداتها

قبل أيّام، أصدرت الهيئة العامّة لتنظيم الاتصالات في الولايات المتحدة قرارًا قضى بحظر استيراد واستعمال معدات شركات تكنولوجيّة صينيّة عملاقة، بسبب تشكيلها “تهديدًا غير مقبول على الأمن القومي الأميركي”. في الشكل، استند القرار إلى مخاوف الهيئة من مخاطر التجسّس والتنصّت على المستخدمين الأميركيين، وهو ما انعكس في نوعيّة المؤسسات المشمولة بلائحة الحظر، والتي طالت شركات هواوي للاتصالات والإلكترونيّات، وZTE للاتصالات السلكيّة، وداهو وهيكفيجن لمنتجات المراقبة عبر الفيديو، بالإضافة إلى شركة هيتيرا المتخصّصة بأجهزة الراديو اللاسلكيّة الرقميّة.

ولكن وبمعزل عن الأسباب المعلنة، كان من الواضح أن القرار لم يكن إلّا حلقة إضافيّة في مسلسل حرب التكنولوجيا بين الولايات المتحدة والصين، والتي يبدو أنّها ستعيد شركات التكنولوجيا الصينيّة سنوات طويلة إلى الوراء، بما يمنعها من منافسة مثيلاتها الأميركيّة.

فبعد أن خنقت الولايات المتحدة الشركات الصينيّة بقرارات منع بيعها الرقائق الإلكترونيّة وسائر احتياجاتها من الواردات التكنولوجيّة المتقدمة، وبعد أن منعت اليد العاملة الأميركيّة من العمل لحساب هذه الشركات، جاء دور أدوات حظر المبيعات وتطويقها اليوم. وبهذه الطريقة، ستكون شركات التكنولوجيا الصينيّة مطوّقة من ثلاث نواحي: الواردات، والمبيعات، والموارد البشريّة ذات الخبرة والموهبة.

سلاح الرقائق الإلكترونيّة: قصّة هواوي الحزينة

قبل سنتين بالضبط، كانت شركة هواوي الصينية تحتل المرتبة الأولى عالميًّا، كأكبر مصنّع لأجهزة الهواتف الذكيّة، متقدّمة بذلك على كل من سامسونغ الكوريّة وآبل الأميركيّة. اليوم، وبعد 24 شهرًا فقط، باتت هواوي خارج قائمة أكبر 5 مصنّعين للهواتف الذكيّة في العالم، فيما عانت الشركة مؤخرًا من تراجع مبيعاتها لستّة فصول على التوالي. ببساطة، أصبحت هواوي تنازع للبقاء، بعد أن نفّذت الولايات المتحدة بحقها –خلال السنتين الماضيتين- أكبر عمليّة اغتيال مالي متعمّد لشركة تكنولوجيّة في تاريخها.

تمثّل قصّة هواوي الحزينة نموذجاً عن طريقة استخدام سلاح حظر الرقائق الإلكترونيّة، القادر على إعدام أي شركة يتصل عملها بالإلكترونيّات من دون استثناء. ففي أيار 2020، قررت الولايات المتحدة فرض تدابير جديدة، تحظر توريد أي رقائق إلكترونيّة من أي شركة تستعمل تصاميم أو تكنولوجيا أميركيّة، لمصلحة شركة هواوي، إلا بعد الاستحصال على موافقة خطيّة من وزارة الخزنة الأميركيّة.

ورغم أن الولايات المتحدة لا تُعد مصدّرًا رئيسيًّا للرقائق الإلكترونيّة، بل مستوردًا، حالها كحال الصين، تمكّن الأميركيّون من فرض هذا التدبير الجديد على جميع دول العالم، نظرًا لحاجة جميع شركات تصنيع الرقائق الإلكترونيّة للتصاميم والتكنولوجيا الأميركيّة، وسيطرة الأميركيين على أجزاء حسّاسة من سلاسل تصنيع وتوريد الرقائق الإلكترونيّة. مع الإشارة إلى أنّ الشركات الأميركيّة تسيطر بشكل شبه تام على نشاط تصميم الرقائق الإلكترونيّة، والبرمجيّات التي تُستعمل لإعداد هذه التصاميم، رغم تصنيع الجزء الأكبر من هذه الرقائق في تايوان.

ومنذ فرض هذا التدبير عام 2020، دخلت شركة هواوي مسار الانحدار، بعدما باتت عاجزة عن تأمين أو تصنيع أو تصميم الرقائق الإلكترونيّة المتطوّرة، التي تحتاجها لمنافسة الشركات الأخرى كآبل وسامسونغ. أمّا الرقائق التي تستطيع تصنيعها وتصميمها داخل الصين، فكانت بدائيّة مقارنة بالرقائق المستخدمة في السلع المنافسة، خصوصًا أن عمليّة تصميم هذا النوع من المنتجات المعقدة يشبه عمليّة تصميم مدن بكاملها، لشدّة التعقيدات التي تحيط بهذه العمليّة.

وعلى مدى السنتين الماضيتين، امتنعت وزارة الخزنة الأميركيّة عن الموافقة على أي طلب لتوريد الرقائق المتطوّرة لمصلحة هواوي، ما حرمها من القدرة على منافسة صناعات الهواتف الذكيّة الكبرى. أما الموافقات التي تم إصدارها، فاقتصرت على الرقائق البدائيّة، التي لا يمكن استخدامها لتصنيع هواتف ذكيّة ذات قدرة تنافسيّة كبيرة. باختصار، كانت هواوي تختنق بصمت منذ العام 2020.

الضربة الثانية: خنق القطاع التكنولوجي الصيني كليًّا

وجدت الولايات المتحدة أن قرار العام 2020 لم يكفِ لضرب القطاع التكنولوجي الصيني بشكل قوي، فأصدرت في 7 تشرين الأوّل الماضي قرارات جديدة، مثّلت ضربة قاضية لهذا القطاع. فمنذ إصدار هذه القرارات، توسّع حظر توريد الرقائق الإلكترونيّة المتطوّرة ليطال جميع الشركات الصينيّة من دون استثناء، بما يشمل منع توريد أي رقائق يمكن استخدامها لتطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي أو نظم الحوسبة إلى الصين.

كما فرضت القرارات الجديدة على جميع الشركات الأجنبيّة في كل دول العالم الإلتزام بهذا الحظر، تحت طائلة منعها من استخدام أو توريد أي تكنولوجيا أو معدات أو تصاميم أميركيّة. ومن الناحية العمليّة، سيؤدّي عدم امتثال أي شركة أجنبيّة لهذه القيود إلى وضعها على قوائم العقوبات، ما سيحيلها إلى التقاعد التام. وبهذه الطريقة، باتت قطاع التكنولوجيا الصيني بأسره يتجه نحو مصير شبيه لمصير شركة هواوي، أي نحو الاختناق البطيء.

وكان من الواضح أن الأميركيين درسوا بشكل جيّد كامل سلسلة إنتاج الرقائق الإلكترونيّة المتطوّرة قبل إصدار القرارات: من تصنيع المعدات التي تصنّع الرقائق، إلى البرامج التي تصمم هذه الرقائق، وصولًا إلى توريد المواد الأوليّة وعمليّة التصميم و التصنيع نفسها. وكان من الواضح أنّ القرارات استهدفت ضبط عمليّات معيّنة في كل حلقة من حلقات سلسلة الإنتاج، بما يمنع الصينيين من تنفيذ هذه العمليّات. وبهذا الشكل، بات من المستحيل أن تتمكن الصين من إنتاج هذه الرقائق المتطوّرة بنفسها، أو حتّى القيام بمرحلة واحدة من مراحل التصنيع، باستثناء الرقائق البدائيّة الموجودة في السوق منذ أكثر من عقد.

لم تكتفِ الإجراءات الأميركيّة الجديدة بهذه القيود فقط. بل ذهبت إلى حد منع أي خبير يحمل الجنسيّة أو الإقامة الأميركيّة من العمل في الشركات الصينيّة، أو تقديم المشورة والخدمات الخارجيّة إلى هذه الشركات. وبهذه الطريقة، فرضت الولايات المتحدة انسحاب أكثر من 43 مهندساً من كبار المسؤولين التنفيذيين الأميركيين، من العاملين في أكبر 16 شركة تكنولوجيا صينيّة، وهو ما مثّل ضربة لا يمكن تعويضها بالنسبة إلى هذه الشركات.

الخطوة الأخيرة: ضرب المبيعات

هكذا، وبعد أن ضربت الولايات المتحدة الأميركيّة خلال السنتين الماضيتين قدرة شركات التكنولوجيا الصينيّة على الإنتاج والمنافسة، وعلى مراحل عدّة، جاء دور منعها من تسويق منتجاتها داخل السوق الأميركي، الذي يمثّل مصدراً أساسياً من مصادر الطلب على منتجات هذه الشركات. وبذلك، سيكون قطاع التكنولوجيا الصيني قد بات محاصرًا من جميع الجهات، بما يمهّد لإعادة الصين إلى أكثر من عقد للوراء، في كل ما يتصل بالمنافسة في قطاع التكنولوجيا. وهذه المصاعب التي تتعرّض لها الصين اليوم، هي تحديدًا ما يفسّر تزايد التوتّرات بينها وبين تايوان، المصدّر الأكبر والأكثر تطوّرًا في سوق الرقائق الإلكترونيّة، الذي امتثل بشكل كبير لجميع العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على الصين.

كل هذه العوامل الضاغطة، ستُضاف إلى الضغوط الاقتصاديّة التي تعاني منها الصين اليوم، وتحديدًا تلك الناتجة عن أزمة قطاعها العقاري، وموجات تفشّي وباء كورونا الجديدة، وما يرافقها من حالات إقفال عام في العديد من المناطق الصينيّة. كما ستُضاف إلى أزمات القطاع المالي الصيني، الذي يعاني أساسًا من ضغط القروض المتعثّرة، المرتبطة بالقطاع العقاري تحديدًا. ولهذه الأسباب، قد يكون من المناسب اليوم السؤال عن إمكانيّة دخول الصين في حقبة طويلة من التباطؤ الاقتصادي، أو حتّى الانكماش المزمن.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةروسيا تبحث إقامة «اتحاد غاز» مع كازاخستان وأوزبكستان
المقالة القادمةطعون بالجملة بموازنة 2022: هل تُعلَّق “ضريبة الدخل” الشوهاء؟