حياة ما قبل النقد: عودة إلى المقايضة والبالة

ليست المرة الأولى التي يعتاد فيها اللبنانيون العيش بلا نقود أو باليسير منها. الفارق، اليوم، أن المصارف التي كانت تمدّهم بالسيولة في السابق لتغطية حاجاتهم الاستهلاكية استولت على أموالهم هذه المرة وسرقت جنى أعمارهم. واقعٌ فرض على كثيرين تكييف معيشتهم ونمط حياتهم مع المعطيات الجديدة واعتماد سلوكيات ظنّوا أنها أصبحت ذكرى من الماضي البعيد أو أنها على طريق الانقراض

«لبنان يقايض»… والمطلوب دفايات وحرامات وحفاضات!

«بوط بناتي نمرة 26 نضيف بعدو جديد للتبديل مع بوط بناتي نمرة 30 أو 31»، «جاكتين نضاف بناتي وصبياني مقايضة على كيسين حفاضات رقم 3 أو 4»، «5 كنزات large للمقايضة على طاولة للكوي (حديد) أو دفاية كهربا»، «حرام بنّاتي جديد للتبديل على كيس دوا غسيل»، «صباط نمرة 42 مقايضة على طقم فناجين»… هذه، وغيرها، بعض من أوجه العودة الى «نظام المقايضة» في لبنان. ففي وقت يتجه فيه العالم إلى تعزيز الدفع الإلكتروني والحد من استخدام النقد، وجد اللبنانيون أنفسهم يتأقلمون قبل غيرهم من الشعوب على العيش في مجتمع خالٍ من الأوراق المالية… لكن بفارق «بسيط». فعوض مواكبة العصر والسير نحو المستقبل عادوا إلى زمن كانت المقايضة فيه عملة التبادل.

يقوم نظام المقايضة على تبادل الخدمات والبضائع مقابل خدمات وسلع أخرى. ومع النقص في السيولة الذي يعانيه كثيرون ممن خسروا وظائفهم أو باتوا يتقاضون نصف رواتبهم أو ربعها، بالتزامن مع الارتفاع الجنوني للأسعار، بات من الضروري إيجاد بدائل. هكذا إذا ما صغر زوج من الأحذية على قدمَي طفل في الثالثة يمكن عرض استبداله بكيسين من الحفاضات لشقيقته الرضيعة، أو مقايضة «سكربينة بيضا نمرة 37 على غالون زيت للقلي 5 ليتر».
ولأن «لبنان كله يقايض»، أنشأ حسن حسنة على الفيسبوك صفحة «لبنان يقايض» التي جذبت الآلاف خلال أيامٍ قليلة. يوضح أن «الصفحة انطلقت في حزيران الماضي وبدأت مع 2000 إلى 3000 عضو، إلى أن قفزت الأرقام خلال يومين إلى 10 آلاف. حالياً عدد الأعضاء الفاعلين يقدر بحوالى 25 ألفاً، لكن عدد الزائرين للصفحة شهرياً يبلغ حوالى 60 ألفاً». يشدد حسنة على أن الفكرة «لا تهدف إلى إثارة الشفقة، بل إلى تأمين طريقة تساعد الناس على تأمين احتياجاتهم بكرامة من دون أن يستعطفوا أحداً»، لافتاً إلى أن البعض «حاول استغلال ظروف الناس، وخصوصاً السيدات المشاركات في الصفحة، لعرض المساعدة مقابل خدمات جنسية وهو ما دفعني إلى التحرك فوراً والتواصل مع مكتب مكافحة الجرائم الإلكترونية».

التفاعل على الصفحة يشمل كل المناطق، لكن أكثر المناطق نشاطاً هي «الشمال والبقاع، تليهما بيروت وضواحيها وكسروان». أما أكثر ما يطلب فهو «الحليب والمواد الغذائية، ونحن في هذا الإطار نتابع هذه الحالات بدقة أولاً لضمان أن تكون السلع الغذائية المطلوبة غير منتهية الصلاحية، وللمساعدة على تأمينها قدر المستطاع بلا مقايضة».
اللافت، بحسب حسنة، أنه مع اقتراب فصل الشتاء زاد الطلب على «الحرامات واللحف، وبشكل خاص وكبير على وسائل التدفئة من مدافئ كهربائية وغاز وحطب ومازوت. الناس في هذه الفترة من السنة يخافون الموت برداً أكثر من الموت جوعاً».

ثياب «خلنج» بـ 500 ليرة لبنانية!

بات الذهاب إلى سوق «البالة» نوعاً من الترف بعدما كان مقصداً للفقراء. فـ«البالة» تحتاج إلى دولارات للوصول إلى الأسواق، وهي تُسعّر على أساس دولار واحد لكل كيلوغرام. ومع ارتفاع سعر صرف الدولار أصبح شراء قطعة من «البالة» يساوي ما كان يساويه التبضّع من متجر فاخر قبل شهور، وهو ما أثّر بشكل كبير على هذه الأسواق وحدّ من أعداد زبائنها.

«سوق الخلنج» مبادرة أعادت لليرة «قيمة»، من دون حاجة إلى حلول اقتصاديّة أو إلى اتفاق مع صندوق النقد، بل من خلال الاتكال على ما يمكن وهبه من ملابس وأحذية لا يحتاج إليها واهبوها، ومهما تكن حالتها.

أطلقت FabricAid، وهي شركة ذات أهداف اجتماعيّة تأسست عام 2016، متاجر «سوق الخلنج» التي بات لها اليوم أربعة فروع في طرابلس وبرج حمود ووادي الزينة وعكار. تبيع المتاجر ملابس مستعملة يتبرع بها أفراد أو جمعيات من خلال وضعها في مستوعبات تابعة للشركة منتشرة في كل المناطق، وتحديداً في المولات ومحال السوبرماركت وعدد من البلديات.

تقوم الشركة، وفقاً لمديرة التسويق فيها لوليا حلواني، «بنقل التبرعات إلى مستودعاتها حيث يتم فرزها وفق النوع والجنس والفئة العمرية، قبل أن تخضع لعملية تنظيف متكاملة ومعالجة ما يحتاج الى تصليح قبل إرسالها إلى سوق الخلنج». حلواني تؤكد «أننا نقبل أي قطعة ثياب أو أحذية مهما تكن حالتها لأنها جميعها قابلة للمعالجة وإعادة الاستخدام. وما يستحيل تصليحه يمكن استخدامه لأغراض أخرى مثل حشو المخدات، إضافة إلى المنافع البيئية لمثل هذه التبرعات في الحد من نفايات الأقمشة التي تقدر نسبتها بحوالى 5% من حجم النفايات في لبنان».

جميع القطع في السوق يراوح سعرها بين 500 ليرة كحد أدنى و3000 ليرة كحد أقصى مهما تكن نوعيتها. توضح حلواني أن «أغلب قطع الملابس والأحذية عالية الجودة، وكثير منها من علامات تجارية عالميّة أصليّة لم يعد أصحابها بحاجة إليها». وتلفت إلى أن للشركة متجراً آخر في منطقة مونو باسم Second Base «يبيع ملابس وأحذية بأسعار أعلى من تلك التي تُباع في سوق الخلنج، لكنها تبقى أرخص من أسعارها الحقيقية. والبضاعة التي نرسلها إلى هذا المتجر لا تروق في العادة زبائن سوق الخلنج التقليديين أو الذين يتوجّه إليهم السوق في الأساس، لجهة ألوانها أو تصاميمها. وتساعدنا المبيعات في هذا المتجر على تغطية نفقات التشغيل العالية».

الأزمة الاقتصادية الحادة انعكست حكماً زيادة كبيرة في زبائن متاجر «سوق الخلنج»، ومن «كل الفئات الاجتماعيّة». وكون «البضاعة ذات جودة عالية، فإنها تشهد إقبالاً حتى من الميسورين والتجار لشراء كميات كبيرة، ما دفعنا الى اعتماد إجراءات لضبط عملية التسوق لكي تعمّ الفائدة على الجميع، وخصوصاً من هم في أمسّ الحاجة». وبالتوازي مع زيادة الإقبال، «تراجع حجم التبرعات مع تراجع قدرة الناس على شراء ملابس جديدة وتمسّكهم بما يملكونه».

مصدرجريدة الأخبار اللبنانية - رضا صوايا
المادة السابقةتأليف الحكومة ورفع الدعم… مَن يسبق مَن؟
المقالة القادمةالرئيس الصيني: لا يمكن لأيّ دولة أن تتطوّر بإبقاء أبوابها مغلقة