حين يصبح المصرف المركزي اللاعب الوحيد: أي استقلالية للسياسة النقدية؟

يعود تاريخ استقلالية المصارف المركزية إلى تأسيس المؤسسات الأولى من نوعها كسلطات نقدية تعمل على إدارة السيولة وحماية النقد من تأثيرات التضخم وتقلبات سعر الصرف حفاظاً على القدرة الشرائية لعملة البلد المعني. وتطور البحث منذ نحو أربعين عاما حول مفهوم إستقلالية المصرف المركزي، وتظهّر في السنوات القليلة الماضية إجماع معين على الحاجة إلى المصرف المركزي المستقل، لتصميم السياسة النقدية وتنفيذها خارج قبة السلطة السياسية التي يمكن أن تنحرف في الإجراءات مع اقتراب مواعيد الانتخابات في ظل ضغوط السياسيين على السلطة النقدية لإرضاء الناخبين بأي كلفة لاحقة..

منذ سنوات لعب مصرف لبنان دور «دينمو» الوساطة بين القطاع المصرفي والدولة فانغمست المصارف في توظيف الودائع لديها بين شراء سندات الدولة وشهادات ايداع المصرف المركزي مقابل فروقات خيالية بمعدلات الفوائد في محاولة تأخير انفجار الأزمة في غياب أي رؤيا اقتصادية فعلية والالتزام بتنفيذ أي من الاصلاحات التي تعهّد بها لبنان مراراً، خصوصاً في المؤتمرات الدولية المانحة للبنان الى ان أصبح المصرف المركزي منذ انفجار الأزمة شبه اللاعب الوحيد في غياب أي سياسة إقتصادية واضحة للتعامل معها،

وقد استدعت دقة الأوضاع المالية التدخّل المستمر للمصرف المركزي لتمويل القطاع العام حتى أصبح أبرز المكتتبين في سندات الخزينة والتي دفعته مراراً للمشاركة في عمليات «السواب» والهندسات المالية مع المصارف التجارية، ما يعكس الشكل الثاني من السياسات النقدية غير التقليدية المعروفة بسياسات التليين النقدي الكمّي Quantitative Easing القائمة على ضخ السيولة لشراء السندات المالية من القطاعين العام والخاص والتليين النقدي النوعي، فضلاً عن الشكل الثالث للسياسات النقدية غير التقليدية القائمة على الشراء الكثيف للسندات على رغم ارتفاع درجة مخاطرها Qualitative Easing.

صحيح أنه مع تطور الدين العام كانت السياسة الأنسب للسلطة النقدية اللبنانية مرتكزة على الأسلوب الكلاسيكي الجديد ولكن الأدبيات الاقتصادية تؤكد أنّه حتى لو كان المصرف المركزي يسيطر بصرامة على معدل نمو الكتلة النقدية على المدى القصير بهدف ضبط التضخّم، فإنّ المديونية المتزايدة للدولة لا بد من أن تؤثر على التوقعات التضخمية. والقدرة الشرائية للعملة الوطنية… وإذا كان خيار العملاء الاقتصاديين في مرحلة ما هو «استيراد الصدقية النقدية» باللجوء إلى الدولرة، وكان اختيار مصرف لبنان هو السعي لتحقيق الاستقرار النقدي وفقا للنهج التقليدي النقدي من خلال التحكّم بالتضخم بالارتكاز على سياسة نقدية مقيّدة، قبل التحرك تدريجاً بنحو موازٍ لربط سعر الصرف في ظلّ معدلات دولرة آخذة في الارتفاع، بحثاً عن ضمان القدرة الشرائية للمدخرات وتسهيلاً للتسعير والتداول للمنتجات.. فالدولرة الجزئية لا بد من أن تقود الى خيار ثابت على المدى الطويل: إما الدولرة الشاملة أو الاستقرار النقدي الفعلي الذي يعيد الثقة بالعملة الوطنية على أساس صدقية السلطة النقدية والاستقلالية الفعلية للمصرف المركزي وخياراته في الحفاظ على القدرة الشرائية للمدّخرات.. فهل تكون 2022 سنة الحسم في أحد هذين الاتجاهين؟ ولأيّ منهما الأرجح أن تكون الغلبة؟

مصدرالجمهوربة - د. سهام رزق الله
المادة السابقةرفع أسعار الاتصالات مؤجّل… فماذا عن الانترنت؟
المقالة القادمةالدولار والأجور… مسار معاكس يُنذر بكارثة