كان العام 2021 عاماً مفصلياً لملف الكهرباء. فخلاله تأزّمت العلاقة مع شركة سوناتراك الجزائرية المورّدة للفيول، وخرجت بواخر شركة كارادينيز التركية غير المأسوف عليها. لكن ما يؤسَف عليه، هو النتائج. فالشركة الجزائرية تطالب لبنان الذي اتهمها بتوريد شحنات فيول مغشوش، بدفع 18 مليون دولار هي قيمة 3 شحنات لم يُدفَع ثمنها. أما كارادينيز فتطالب بـ200 مليون دولار. وإن لم يدفع لبنان للشركتين، فسيواجه التحكيم الدولي.
تجاهَلَت وزارة الطاقة هذه الوقائع وركّزت على بروباغندا تأمين الفيول لزيادة ساعات الكهرباء، كيفما اتفق، وبغض النظر عن آلية تأمين ثمن الفيول وإدارة انتاج الكهرباء وتوزيعها. فاتجهت نحو العراق. لكن سرعان ما عادت الوزارة للحديث عن الاتجاه نحو تركيا والجزائر. فما هو السرّ؟
العودة إلى تركيا والجزائر
في تموز 2021، وقّع وزير الطاقة السابق ريمون غجر اتفاق توريد مليون طن من زيت الوقود الذي سيستبدل بالفيول الملائم لتشغيل معمليّ دير عمار والزهراني. لكن قبل 5 أشهر من التوقيع، اعترف الوزير أن الكميات الآتية من العراق “غير كافية” (كان من المفترض حينها استيراد 500 ألف طن). لكن زيادة الكمية لاحقاً، لم يكن كافياً أيضاً، وبقيت الحاجة إلى مزيد من الشحنات، قائمة. والنقص، كان من المفترض تعويضه، حسب غجر “من خلال منصات الشحن الفوري “Spot cargo”. أما تأمين التمويل، فهو آلية “ليست من اختصاص وزارة الطاقة. ولدى توقيع الاتفاقية يتم التباحث بطرق آلية الدفع مع رئيس الحكومة”.
وبما أن الاتفاقية مع العراق لم تفلح في حلّ الأزمة أو تخفيفها، كان لا بد من إيجاد بديل أو رديف لها. خصوصاً وأن العراق لا يرى نفعاً كبيراً من تجديد الاتفاقية مع لبنان، إذ أكّد وزير المالية العراقي علي عبد الأمير علاوي، مطلع الشهر الجاري، أن الاتفاق مع لبنان حول توريد الفيول، يجب أن “يخضع لضوابط تستطيع بموجبها الحكومة العراقية أن تقوم بإدارة المخاطر المالية التي تترتب على الاتفاقية، من ضمنها سعر الصرف والتأخير عن الدفع”. وبما أن الضمانات غير واردة، فالتجديد ممزوج بالمخاطر، وهذا ما جعل وزير الطاقة وليد فيّاض يعكس وجهته نحو تركيا والجزائر، مؤكداً أنهما على استعداد لمساعدة لبنان في ملف النفط والكهرباء. لكن عقدة مستحقات الشركتين التركية والجزائرية، هي العقبة الوحيدة التي يراها فيّاض، ولذلك سيعمل على حلّها مع مسؤولين أتراك وجزائريين. ويمكن بعدها تأمين الفيول.
أزمة التمويل والبواخر
لا يمكن حسم مسألة عزوف العراق عن تجديد العقد مع لبنان، فالقرار النهائي يعود للمسؤولين العراقيين. لكن انعطافة وزير الطاقة، تؤكّد وجود خطب ما. كما أن السلوك العراقي متناقض، فتارة يطلب ضمانات لا يمكن للبنان تأمينها، وتارة يجري التواصل مع لبنان على أعلى المستويات، كعملية بحث إمكانية تجديد الاتفاقية وزيادة الكميات المستوردة، بين رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي والمدير العام للأمن العام اللبناني اللواء عباس ابراهيم الموجود اليوم في بغداد. وأمام لقاء بهذا المستوى، إن كانت أصداؤه إيجابية، فلماذا يُبحث الخياران التركي والجزائري في ظل وجود أزمة مستحقات مالية؟
تفكيك الألغاز يبدأ من حسم فيّاض حقيقة أن “الدولة لا ميزانية لديها من أجل شراء الفيول”. فكيف إذاً سيُشرى الفيول من تركيا أو الجزائر أو يجدد العقد مع العراق؟ أما الركون إلى رفع مؤسسة كهرباء لبنان للتعرفة لتحصيل الإيرادات الكافية لدفع ثمن الفيول، فهو هرطقة. ولذلك، لا يبقى أمام وزارة الطاقة سوى خزينة الدولة. وهنا بالضبط، يُفهَم كلام غجر عن عدم اختصاص الوزارة بالدفع. لكنه وَقَعَ في جهل قانون النقد والتسليف، معتبراً أن آلية الدفع تُبحَث مع رئيس الحكومة لدى توقيع الاتفاقية، في حين أن القانون يمنع عقد نفقة (توقيع عقد) قبل تأمين تمويلها.
التخبّط بين حقيقة عدم وجود دولارات كافية للتمويل، وبين الاتجاه نحو تركيا والجزائر للحصول على الفيول، يترجمه مدير عام الاستثمار السابق في وزارة الطاقة غسان بيضون باعتباره التنقّل “حيلة جديدة ومضيعة للوقت”. متسائلاً في حديث لـ”المدن”، عن “كيفية وموعد دفع ثمن الفيول المستورد”.
والحديث عن تواصل الوزير مع مسؤولين أتراك أو جزائريين، لا معنى له في قاموس بيضون الذي يسأل “كيف لشركات تريد ملايين الدولارت من بلد عاجز عن سداد مستحقاته، أن تجدد التعاقد معه؟” ويحذّر بيضون من نيّات مبيّتة لإعادة مشروع بواخر الطاقة بصورة بواخر فيول، وتوريط الخزينة بسلفات جديدة يبدّلها مصرف لبنان بدولارات من جيوب الناس وحقوق المودعين. فالمصرف المركزي يؤكّد مراراً عدم قدرته على تأمين الدولارات للاستمرار في دعم ما تبقّى من بنزين وخبز ودواء، فهل يدعم شراء الفيول للكهرباء؟
علماً أن عودة البواخر تعيد ضخ الحياة لشراكة سياسية بين الأطراف المنتفعة من ملف الكهرباء بكل زواريبه، سواء التعاقد مع شركة كارادينيز، أو ملائكة تبديل الفيول الآتي عبر شركة سوناتراك، أو أباطرة استيراد النفط في لبنان، حاولوا عرقلة الاتفاق مع العراق، وهو ما كشفته مصادر عراقية، وبدا واضحاً من خلال تأخير تنفيذ الاتفاق. (راجع المدن).
محاولات وزارة الطاقة لاستيراد الفيول بدولارات غير موجودة لديها أو لدى مؤسسة كهرباء لبنان، تعني أن “مستقبل الكهرباء صعب والأفق مسدود أمام الحل”، يقول بيضون. وإن كان الواقع كذلك، فلماذا يصر وزير الطاقة على إمكانية الحل عبر استيراد الفيول؟ لا يجد بيضون تبريراً غير “الإصرار على تضييع الوقت وملء الفراغ ومحاولات إقناع الناس بأمرٍ لا يقوم على أسس موضوعية. فالوزارة وكهرباء لبنان لا يمكنهما تأمين الأموال للاستيراد، ولا استرداد قيمتها عبر الجباية”. ولذلك، استيراد الفيول أمر مبهم، إلاّ إن أُحرِقَت المزيد من الدولارات.