كل من يتحدّث مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، ونائبه سعادة الشامي، يدرك أنّ العلاقة بين الرجلين أعمق من أن يدخلا في تجاذب كبير في ما بينهما، حول مسألة حسّاسة كمبادئ خطة التعافي المالي واستراتيجيّة النهوض المالي. لا بل يدرك الجميع مدى تمسّك ميقاتي نفسه بسعادة الشامي، ضمن أي تركيبة حكوميّة مقبلة. كما يعرف القاصي والداني أن ميقاتي ما زال حتّى اليوم يفوّض الشامي بإدارة أكبر ملفّات حكومته، أي مسار التفاوض مع صندوق النقد الدولي، من دون أن يحاول حتّى إدخال لاعبين جدد على هذا الخط. ولغاية هذه اللحظة، ما زال ميقاتي يحرص على إحالة كل مداولات خطّة التعافي إلى الشامي، الذي يدير الفريق المفاوض مع صندوق النقد من جهة، ويعدّل خطّة التعافي على هذا الأساس من جهة أخرى. باختصار، لا يوجد ما يوحي أن تباعدًا ما يحكم علاقة الرجلين، بمعزل عن كل ما قيل ويُقال في هذا الموضوع. بل وبمعزل عن المتربّصين الكثر بسعادة الشامي، الذين ينتظرون تباينًا كهذا، أو ربما يحاولون خلقه.
معطيات غير متطابقة
لكن في الوقت نفسه، بات هناك ما يستحق الوقوف عنده في تصريحات الرجلين، بما يخص خطة التعافي. من ناحيته، يتمسّك الشامي في آخر تصريحاته يوم أمس الإثنين 11 تموز بمندرجات خطّته، كما وافقت عليها الحكومة قبل دخولها مرحلة تصريف الأعمال، مؤكّدًا أن أي تعديل لم يطرأ عليها بعد. أمّا كل ما يُحكى عن صندوق التعافي، وهو من بنات أفكار الفريق المفاوض كما أكّد الشامي، فهو مجرّد مداولات تنتظر موافقة صندوق النقد قبل أن تدخل الخطّة. وإذا لم يوافق الصندوق، وهذا ما يتوقّعه الجميع، فلا يُفترض أن يتنظر أحد تعديلات جوهريّة على مضمون خطّة التعافي. وفي جميع السجالات، ما زال الشامي يبدي الكثير من الصلابة في الدفاع عن مبادئ الخطّة الأساسيّة، بل ويظهر حتّى بعض الشراسة في الردود حين يتعلّق الأمر بالسجال مع جمعيّة المصارف ومن يدور في فلكها. وفي هذا الأداء، يبدو أن الشامي تعلّم جيدًا من درس سقوط خطّة لازارد منذ سنتين: على من يفاوض صندوق النقد، ويتفق معه على خطّة ما، أن يكون مستعدًا للدفاع عن هذه الخطّة على رؤوس الأشهاد، قبل أن تسقط في وحول المصالح الماليّة المحليّة.
على المقلب الآخر، يبدو ميقاتي أكثر حرصًا على مراعاة التوازنات الداخليّة، وخصوصًا في ما يتعلّق بهواجس جمعيّة المصارف، المتوجّسة من إجراءات شطب الرساميل وإعادة الهيكلة القسريّة التي تنص عليها الخطّة. يعيد ميقاتي التأكيد أنّ هناك تعديلات حتميّة ستدخل على مندرجات خطّة التعافي المالي، ومنها ما يتعلّق بآليّات السداد لصغار المودعين، ونسبة الشطب من الرساميل، وإلزام الدولة بسداد نسبة من الودائع عبر صندوق التعافي المالي، فيما يسعى رئيس الحكومة إلى تظهير التفاهم مع صندوق النقد على التعديلات كمسألة إجرائيّة روتينيّة ليس إلا. مع الإشارة إلى أنّ ميقاتي نفسه يعلم أن موافقة الصندوق على تعديلات كبيرة بهذا الحجم مسألة مستبعدة، خصوصًا أن الوفد المفاوض حاول في مراحل سابقًا تمرير أفكار كهذه خلال المفاوضات من دون أن يلقى تجاوبًا.
توزيع أدوار
باختصار، يبدو من الواضح أن لعبة توزيع أدوار ما تحكم علاقة ميقاتي والشامي. يعلن الشامي بواقعيّة أمام الجميع شروط صندوق النقد، وما تم التفاهم عليه حتّى اللحظة، وما رفضه الصندوق في جولات التفاوض السابقة، ويشدد في كل تصريح على عواقب تطيير الخطّة والتفاهم على مستوى الموظفين. هو صوت الأمر الواقع، الذي يخيّم فوق كتلة ضخمة من المصالح المتشابكة بين النظام السياسي والقطاع المصرفي، مشيرًا إلى أقصى ما يمكن القيام به خلال الفترة المقبلة، قبل أن تنتقل البلاد إلى مراحل السقوط الحر. لا يفوت الشامي تذكير جمعيّة المصارف أنّه حاول الوقوف عند خاطرها خلال المفاوضات مع الصندوق، كما فعل حين أعلن أنّه جرّب تمرير فكرة شبيهة بفكرة “الصندوق السيادي” من دون أن يحالفه الحظ. أو كما يفعل اليوم عن التأكيد أن فكرة “صندوق التعافي” خرجت من داخل الوفد المفاوض مع صندوق النقد. إلا أنّه يعيد الحديث دومًا إلى نقطة البداية: هذا أفضل ما يمكن تمريره مع الصندوق.
في المقابل، يقف ميقاتي في الوسط، محاولًا جمع التناقضات ومراعاة الأضداد. وميقاتي كما هو معلوم، يجمع في شخصه علاقات ومصالح يصعب حصرها. هو المستثمر الدولي، وصديق الفرنسيين الصدوق، بل وشريكهم، الذي لا يحمل الذهاب بعيدًا إلى حد الإطاحة بالتفاهم مع صندوق النقد والإصلاحات المطلوبة. وها هو ملفّه يتحرّك بخفّة في موناكو، ليتذكّر ميقاتي دائمًا أن عصا المجتمع الدولي حاضرة إذا حاول اللعب بعيدًا عن الدور المنوط به اليوم، كميسّر لمسار التفاوض مع صندوق النقد. وميقاتي، صاحب المليارات العابرة للحدود، يعرف أن مسيرة ملفّات رياض سلامة في أوروبا بدأت تمامًا على هذا النحو، على شكل قصاصة ورق عنوانها “طلب معونة قضائيّة واردة من الخارج”، قبل أن يتحوّل الأمر إلى حجوزات على الأملاك والأموال في أوروبا، بعد أن بات سلامة عقبة أمام مسارات التصحيح.
لكل تلك الأسباب، يتمسّك ميقاتي بالشامي، وبدوره كمفاوض مع صندوق النقد، بل وبمسار التفاوض وخطّة التعافي التي نتجت عنه. لكنّه في الوقت نفسه، يدرك مدى حاجته إلى شراء الوقت، قبل أن تنفجر في وجهه حملة جمعيّة المصارف الشعواء، داخل المجلس النيابي، رفضًا لمندرجات الخطّة الماليّة. وهو رأى أساسًا بعض ملامح ما يمكن أن يواجهه لاحقًا، من خلال بيانات الجمعيّة السابقة ورسالتها إلى صندوق النقد. وميقاتي نفسه ليس بعيدًا عن تقاطعات المصالح المحليّة، بين سياسيي هذا البلد والمصرفيين فيه، وهو يدرك جيًّدا أن حملة كهذه من شأنها الإطاحة بالتفاهم المبدئي مع صندوق النقد، وبخطة التعافي نفسها.
يمسك ميقاتي العصا من النصف، يهدئ من روع المجلس النيابي، ويطمئن السادة النوّاب لجهة سعيه إلى إرضاء جمعيّة المصارف بأي ثمن. يراهن على تمرير بعض القوانين المطلوبة من جهة صندوق النقد خلال هذا الوقت، كقانون الكابيتال كونترول ورفع السريّة المصرفيّة وموازنة العام 2022، قبل أن يعيد طرح الجزء الإشكالي في خطته: كيفيّة إعادة هيكلة القطاع المصرفيّة وتوزيع الخسائر. وخلال هذا الوقت، يراهن ميقاتي على محاولة تقريب الخطّة قدر الإمكان من حساباته المحليّة هذه، عبر إعادة طرح أفكار كصندوق التعافي، لربما تمكّن من إقناع صندوق النقد بإحدى هذه الطروحات. أمّا إذا فشل في ذلك، فسيكون قد أدّى قسطه إلى العلى أمام جمعيّة المصارف ومن يحرص على أولويّاتها من كتل وأحزاب محليّة.
في عمليّة توزيع الأدوار، يعرف ميقاتي أن لحظة الحقيقة ستأتي خلال الفترة المقبلة، بعد إنجاز آخر صيغ خطة التعافي المالي. وعندها، سيكون على المجلس النيابي حسم الموضوع: إما تمرير الإصلاحات التي يطلبها صندوق النقد كما هي، ومنها المسائل التي تتصل بتحميل أصحاب المصارف النصيب الأوّل من الخسائر، أو تطيير الخطّة والتفاهم معًا، كما حصل عام 2020، كُرمى لمصالح المساهمين في القطاع المصرفي. عندها، ستكون الكرة قد أصبحت في ملعب النوّاب، ليحددوا مآل الأمور.