خلال العقدين الأخيرين، عملت دول كثيرة لتعديل تشريعاتها المتعلقة بالبنوك المركزية، أو إن صحّ التعبير “تصحيحها”. هدفت التعديلات التشريعية إلى هزيمة التضخم بحسب إحدى الأوراق التي أعّدها صندوق النقد الدولي، الذي اعتبر أنّ تمويل الحكومات مصدر مزمن للتضخّم، والحدّ من هذا التمويل ضروري لبناء “مصداقية المركزي”، وهي مكوّن رئيسي لتحقيق فعالية السياسة النقدية. لا يحبّذ صندوق النقد تمويل البنوك المركزية للإنفاق الحكومي أو بالأحرى “تقييد” هذا التمويل من ضمن سلّة شروط محددة.
في وقت يُرخي فيه القلق السائد من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بثقله على الاصعدة كافّة، ينظر المهتمّون والمختصّون بكثير من القلق إلى الحجم الكبير لتسليفات مصرف لبنان للدولة. فقد استقرّ الفقه الاقتصادي منذ زمن بعيد على اعتبار تمويل الدين العام من خلال قروض المصرف المركزي كمصدر للتضخّم، الأمر الذي يؤدّي حكماً إلى ضعف القوّة الشرائية للعملة الوطنية.
لذلك، تشدّدت قوانين المصارف المركزية في العالم، بطريقة متفاوتة، في منع تمويل عجز الموازنة بواسطة قروض المصرف المركزي تلافياً لخطر التضخّم، وربّما التضخّم المفرط.
أبرز مثل على ذلك ما ورد في المادّة 104 من اتفاقية الوحدة النقدية الأوروبية سنة 1992، التي حظّرت على المصرف المركزي الأوروبي والمصارف المركزية الوطنية للدول الأعضاء، تقديم أي نوع من أنواع التسهيلات لمؤسّسات الاتحاد الأوروبي على اختلافها ومؤسّسات الدول الأعضاء، المركزية منها والاقليمية، ويشمل ذلك تملّك المصرف المركزي الأوروبي والمصارف الوطنية أدوات الدين العام الصادرة عن حكومات أوروبا. وبما أن المصارف المركزية قد تعمد إلى شراء وبيع أوراق الدين الحكومية للتأثير على السيولة في سياق عمليات السوق المفتوحة، فقد استقرّت أنظمة المصارف المركزية حول فكرة أنّ المصارف تستطيع شراء سندات الدين الحكومية من السوق الثانوية فقط ضمن عمليات السياسة النقدية.
شروط الإقراض
لم يشذّ قانون النقد والتسليف اللبناني الذي صدر العام 1963 عن هذه القاعدة، فتشدّد في منع مصرف لبنان من تقديم قروض للحكومة بشكل مباشر، ونصّ أيضاً على أنه في الظروف العادية يمكن للمصرف أن يمنح الحكومة تسهيلات صندوق فقط، لا تتجاوز 10% من متوسّط الواردات العادية للموازنة العامّة في السنوات الثلاث الأخيرة. وتمنح هذه التسهيلات عند الضرورة فقط ولمدّة لا تتجاوز 4 أشهر.
خارج هذه التسهيلات الموقّتة نصّت المادّة 90 من قانون النقد والتسليف على أن “المبدأ هو عدم منح مصرف لبنان قروضاً للقطاع العام”. أما في الظروف المسمّاة: “الظروف الاستثنائية الخطيرة وحالات الضرورة القصوى” فقد سمح القانون للحكومة بالاقتراض من المصرف المركزي، ضمن شروط صارمة ومعقّدة بعد أن يستعمل المصرف كل خبرته ومعرفته للبحث عن بدائل للتمويل المطلوب، بما يغني عن الاقتراض من مصرف لبنان. ويتمّ إسداء القرض بموجب عقد يُرسل إلى مجلس النوّاب للاطلاع عليه.
بين الممارسة والقانون
ولكن في لبنان، وكما جرت العادة، فإنّ القانون في وادٍ والممارسة في وادٍ آخر. فقد اعتادت الدولة على التعويل على المصرف المركزي من دون أن يرفّ لها جفن ومن دون اكتراث بالمخاطر التضخّمية نتيجة التمويل التضخّمي من مصرف لبنان. ففي تشرين الأوّل الماضي، على سبيل المثال، بلغت حصّة مصرف لبنان من الدين العام بالليرة اللبنانية 55% من مجموع هذا الدين، تضاف إلى ذلك محفظة مصرف لبنان في سندات الدين بالعملات الأجنبية (اليوروبوندز) التي تبلغ 12% من إجمالي السندات.
لا شكّ بأن هذه الحدود التي وصل إليها تسليف مصرف لبنان للدولة هي حدود كبيرة وغير مألوفة وذات نتائج تضخّمية أكيدة. ويستند مصرف لبنان لاقتناء هذه السندات إلى المادّة 76 من قانون النقد والتسليف التي منحت المصرف حق “شراء وبيع السندات في السوق الحرّة”. إنّ هذه الإجازة التي تضمّنتها المادّة 76 كانت بهدف تنفيذ السياسة النقدية وليس بهدف تمويل الدولة، إذ منح القانون هذه الإجازة لتمكينه من “ابقاء الانسجام بين السيولة المصرفية وحجم التسليف وبين مهمته العامة. أكان ذلك عن قصد أو عدمه. لكنّ المطروح اليوم يتخطّى مخالفة القوانين لناحية توريط الحكومات المتعاقبة، منذ التسعينات وحتى اليوم، حاكم مصرف لبنان بتغطية هدرها وفسادها. من هذا المنطلق أصبح من الواجب التساؤل عما اذا كان الحاكم يمارس هذا الدور مخيّراً أم مسيّراً لعجزه عن التمرّد على هذا النظام الفاسد؟ فسلامه في نهاية المطاف “موظف دولة” يعني أنه عُيّن من قبل السلطة التنفيذية التي جدّدت له ثلاث مرات آخرها في العهد الحالي.
في هذا الاطار لا بدّ من استذكار واقعة شكّلت نقطة تحوّل في سياسة المركزي الذي فقد “هيبته النقدية” وبات تابعاً للسلطة السياسية. تدلّ الحادثة، كما يرويها نائب حاكم مصرف لبنان السابق غسان العيّاش في كتابه الشهير “وراء أسوار مصرف لبنان – نائب حاكم يتذكّر”، على شراسة النظام السياسي إذا تمرّدت عليه إحدى المؤسّسات. “فقد حاول إدمون نعيم حاكم مصرف لبنان الأسبق أن يمارس استقلالية مصرف لبنان، وأن يردع الدولة عن الإفراط في الاقتراض من مصرف لبنان، فانتهت التجربة بأن أحد الوزراء، بالتواطؤ مع مسؤولين كبار في الدولة أرسل إليه قوّة أمنية مسلّحة لجلبه إلى مكتب الوزير بالإكراه. ولما رفض نعيم وقاوم اعتُدي عليه جسدياً قبل أن يفلت بأعجوبة من أيدي خاطفيه”.