مرة جديدة تجد “لجنة المال والموازنة” النيابية نفسها مضطرة للعب دور السلطة التنفيذية. فمن بعد تسلمها كرة نار “الكابيتال كونترول” الملتهبة من الحكومة، وجدت نفسها اليوم معنية بالتخفيف من وطأة الأزمة من خلال دراسة 3 أفكار وتحويلها إلى مقترحات قوانين للإقرار في البرلمان، وهي: رفع سقف السحوبات من المصارف إلى 10 آلاف ليرة للدولار، زيادة رواتب موظفي الدولة بنسبة 40 في المئة لغاية نهاية العام الحالي، وفتح اعتماد بقيمة 1200 مليار ليرة لتسديد مستحقات، ومنها بشكل اساس للقطاع الإستشفائي.
باستثناء الإجراء الثالث فان بقية الإجراءات غير محددة القيمة. وبحسبة بسيطة يتبين أن زيادة 40 في المئة على الرواتب يكلف الخزينة شهرياً ما يقارب 400 مليار ليرة. واذا افترضنا أن هذا الإجراء حصر بـ3 أشهر (تشرين الأول، تشرين الثاني، وكانون الأول) فان مجمل الكلفة سيبلغ أيضاً 1200 مليار ليرة. أمّا في ما خص السحوبات، فمن المتوقع ألا تزيد المبالغ المسحوبة بسبب العمل على تخفيض سقف السحوبات الشهرية. وفي جميع الأحوال إذا أضفنا كلفة اقتراح لجنة المال المقدرة بـ2400 مليار ليرة، على كلفة رفع بدل النقل المقدرة بـ1200 مليار ليرة، واعطاء سلفة خزينة بقيمة 600 مليار ليرة كمساعدة إجتماعية تدفع على دفعتين متساويتين لموظفي الدولة، فان مجمل المبلغ سيفوق 7800 مليار ليرة. هذا الرقم يشكل حوالى 50 في المئة من مجمل الايرادات المحققة في العام 2020 (15890 مليار ليرة).
يقول الباحث في الشؤون الماليَّة والاقتصاديَّة البروفسور مارون خاطر. “نستنتج من إقرار السلسلة الشعبويّ والمتسرّع أمرَين اثنين: الأول، غياب الإحصاءات الدقيقة لعديد ومهمّات موظفي القطاع العام. والثاني، زيادة الرواتب من دون دراسة فعلية لجهة الكلفة ومصادر التمويل بالمقارنة مع إيرادات الدولة ومداخيلها”. يضيف البروفسور خاطر، اليوم وبعد نحو 4 أعوام على الواقعة المرَّة يجري استنساخ الخطأ القاتل نفسه وإن لفترة محددة بنهاية السَّنة. عمليّاً، يَعمد المسؤولون أنفسهم، وإن تغيَّرت بعض اسمائهم، إلى رفع الرواتب مرتكزين على تمويلها عبر طبع الاموال أو عبر رمي كرة نار زيادة الضرائب على أي حكومة موعودة. أما المطلوب فهو “تمويلها من خلال رفع الانتاجية”.
في سياق مُتَّصل، يَرَى البروفسور خاطر أنَّ “أي زيادة للأجور في ظلّ نمو سلبي للإقتصاد ستتآكل قبل إمكانية الاستفادة منها لتحسين القدرة الشرائية وجودة الحياة. كما أنَّها قد تدفع باتجاه التضخُّم المُفرَط لتَرافُقِها مع نُدرة شديدة في عرض السلع. عندها لن يبقى التضخم مقتصراً على ارتفاع الأسعار فقط بل يصبح على شكل تبدُّلات يومية في أسعار السلع والمنتجات والخدمات، وتحديداً تلك الضرورية المفقودة من الأسواق. وستخلق مضاربة عبر هذه الأموال في السوق السوداء وقد تؤدي إلى ارتفاع سعر الدولار”.خلفية القرار سياسية
بالإضافة إلى ما تقدَّم على الصعيد المالي، تقترح لجنة المال والموازنة على الصعيد النقدي رفع سقف سحوبات الدولار في المصارف من 3900 ليرة إلى 10 آلاف ليرة. الحجة التي اعتمد عليها الطرح منطقية وهي ارتفاع سعر الصرف في السوق الموازية إلى 20 ألفاً. وبالتالي فان مثل هذا الإجراء يدعم برأي واضعيه القدرة الشرائية. في هذا السياق يرى البروفسور خاطر أنَّ “هذا الإقتراح يعني زيادة الكتلة النقدية M1 (سيولة بالليرة + ودائع بالليرة تحت الطلب)، وذلك بغض النظر عن كمية السحوبات التي سيسمح بها، ومن دون الأخذ بالاعتبار وضعها في التداول بشكل كليّ او جزئيّ. فكلّ زيادة في هذه الكتلة ستؤثر حكماً على التضخم وتغذية السوق الموازية والوصول بنا إلى حدود التضخم المفرط.
إلا أنَّ ما قد يخفف من وطأة هذا الإجراء هو منع من يستفيدون من التعميم 158 من الاستفادة من التعميم 151. وعمَّا اذا كان تخفيض سقف السحوبات قد يحدّ من الآثار السلبية لزيادة الكتلة النقدية ويكون من الجهة الأخرى قد خفض الهيركات إلى 50 في المئة؟ يعتبر البروفسور خاطر أن “الأمر سيان بالنسبة للمودع الذي سيحصل في نهاية الشهر على نفس المبلغ الذي كان يحصل عليه عند سقف السحوبات على 3900 ليرة. هذا الإجراء لا يخفِّض الهيركات إلى 50 في المئة كما يعتقد الكثيرون لان المبالغ ستبقى محجوزة في المصارف فيتولّى الوقت الحسم من قيمتها”. بالنظر إلى ما يحصل يظهر أننا أمام واحدة من مصيبتين: إما “فقاعة” مالية ونقدية جديدة لن تلبث أن تنفجر في وجه الجميع بعد أن تكون قد امتصت غضب الموظفين والمواطنين باجراءات ترقيعية موقتة، وإما “ملهاة” جديدة تبقي الجميع منتظراً الأحسن على قاعدة “على الوعد يا كمون”.