قبل 4 سنوات بالتمام والكمال حصلت حكومة حسان دياب على الثقة (الغالية!) في مجلس النواب في 11 شباط 2020، رغم أنف احتجاجات وتظاهرات واقفال طرقات واستهدافات لمواكب النواب والوزراء المدعوين الى البرلمان آنذاك.
بذل رئيس المجلس نبيه بري جهوداً استثنائية مع مختلف القوى السياسية لحضور نوابها الجلسة، مع خوف كان واضحاً على محياه في تلك الفترة من ان يسقط النظام في ما لو استطاع المتظاهرون تنفيذ شعارات رفعوها بقوة في تلك المرحلة من مراحل الانتفاضة.
ألبسوا حسان دياب الثوب الوسخ… وتنصّلوا منه
أما مكر الطبقة السياسية الميكيافيلية التي أمنت نصاب الجلسة بصعوبة بالغة فتجلى بعد أشهر قليلة عندما ضُربت حكومة دياب من بيت أبيها، وتركت وحيدة تتخبط في المعضلات المستعصية مالياً ومصرفياً واقتصادياً واجتماعياً.
تبين في الاشهر القليلة اللاحقة وبوضوح شديد ان تلك الطبقة ألبست حسان دياب وحده الثوب الوسخ: تعليق دفع سندات اليوروبوندز بتعثر غير منظم، وتبذير مليارات من الاحتياطي على الدعم. في المقابل تركت المنظومة الحبل على غاربه لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة لارتكاب الموبقات التي وصمت بها ايضاً مرحلة حسان دياب، علماً انها من افعال المنظومة الماكرة وحدها دون غيرها، اما حكومة دياب فكانت للتمسيح بها ليس إلا. وتوجت المسرحية بإسقاط ارقام (وخطط) الحكومة وشركة لازار في لجنة تقصي الحقائق البرلمانية بموافقة كل الاحزاب والتيارات السياسية، كما أجهض التفاوض مع صندوق النقد الدولي، فوقع لبنان في ورطة التعثر غير المنظم الذي اورث خسائر او نزيفاً بنحو 50 مليار دولار في ظل شعار «الودائع المقدسة» الذي رفعه بري وتظلل بفيئه كثيرون لارتكاب جرائم مالية ابرزها ما يلي:
6 مسارب للتربّح من الانهيار بعد التربّح من الازدهار
1 – معارضة بري لإقرار قانون ضبط السحوبات والتحويلات (الكابيتال كونترول) سمحت بهروب اموال الى الخارج تقدر بنحو 12 مليار دولار بما في ذلك تلك التي كانت في حسابات ائتمانية
2 – تبدد من الاحتياطي اكثر من 10 مليارات دولار على الدعم العشوائي والفاسد، وتمويل الدولة ودعم «صيرفة»
3 – حصلت المصارف على 8 مليارات دولار من مصرف لبنان بحجة ان لديها التزامات خارجية
4 – بدأت تلك السنة بدعة تجارة الشيكات، وسداد قروض دولارية بالليرة او اللولار بإجمالي تراكم حتى وصل اكثر من 30 مليار دولار
5 – فضلاً عن بدعة منصة صيرفة التي استخدمها رياض سلامة بذريعة افادة المودعين، فاذا بحقيقتها لخدمة مضاربين ومصرفيين ونافذين، والنتيجة: ارباح غير مشروعة بقيمة 2.4 مليار دولار
6 – وصرفت حقوق السحب الخاصة (SDR ) التي كانت قيمتها 1.1 مليار دولار.
إستبدال شعار بآخر… لتنويم المودعين مغناطيساً
إستنفد تماماً شعار الودائع المقدسة، وينقل زوار الرئيس بري عنه حالياً انه مع استخدام ايرادات اصول الدولة للتعويض على المودعين. فقد تبين من المشروع الحكومي المتداول منذ ايام لهيكلة المصارف ان لا ودائع قبل 10 الى 30 او 35 سنة. فالمبلغ المحمي (أي 100 ألف دولار للمودع) يحتاج 10 الى 15 سنة، والباقي يذهب الى صندوق لاسترداد الودائع بلا أجل واضح له، لكن المطلعين الحكوميين لا يستبعدون انتظار 3 عقود على الأقل. في الموازاة ستبدأ طروحات استخدام اصول الدولة وهي الشعار الجديد الذي سنسمع اسطوانته المشروخة طيلة سنوات قادمة لإطراب البعض الذي كان يطرب كالمخمور لسماع نشيد «الودائع المقدسة» طيلة اكثر من 4 سنوات.
سيُترك سعادة الشامي وحيداً… كما دائماً
وإذا حول المشروع الى مجلس النواب بدون تعديلات جوهرية سيعمد نواب المنظومة الى التنصل من درسه كما فعلوا مع حكومة دياب تماماً. ولن ينكبوا عليه بجدية كي لا يعترفوا بأن الودائع غير مقدسة وهي عرضة لهيركات يصل 80%. فأين المفر؟
سنسمع في الأيام المقبلة هجوماً متجدداً على نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي على انه أبو المشروع بعدما تنصل منه حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم ومنصوري ورئيسة لجنة الرقابة على المصارف مايا دباغ اضافة الى الصامت الأكبر وزير المالية يوسف خليل.
ستصوب السهام على الشامي الذي نصحه مقربون بألا يذهب الى البرلمان وحيداً لئلا يصيبه الغثيان من سفالة الهجوم عليه. واقترح الناصحون بألا يذهب الا بمرافقة اللجنة التي تشكلت في 2022 للتفاوض مع صندوق النقد الدولي وتضم وزيري المالية والاقتصاد وممثلاً عن مصرف لبنان. ستذهب تلك النصيحة ادراج الرياح لأن الوزيرين سيرفضان حتماً، كما ان منصوري قد يرسل أحد نواب الحاكم لرفع العتب من دون تسليحه بأدوات الدفاع عن المشروع.
سيتجاهل نواب المنظومة البنود الاصلاحية
سيهرب نواب المنظومة من البدء بإقرار مواد اصلاحية في المشروع وابرزها متعلق بالبحث عن مشروعية كل وديعة تزيد على 500 ألف دولار، والبحث عن مشروعية كل وديعة لموظف عمومي لديه اكثر من 300 ألف دولار، واعادة فائض ارباح المصارف (ومكافآت المصرفيين) التي تزيد عن المتوسط العام في القطاع المصرفي وذلك منذ 2016، واستعادة كل مبلغ يزيد على 100 ألف دولار خرج من البلاد، وشطب الفوائد فوق 1%، واجبار المصرفيين على التصريح عن اموالهم المنقولة وغير المنقولة في الداخل والخارج منذ 2015، والعودة قضائياً على افعال وثروات المصرفيين الذين يختارون تحويل مصارفهم الى التصفية، فضلاً عن مواد خاصة برفع السرية المصرفية بشكل كامل وتفعيل ادوات قوانين مكافحة الفساد والاثراء غير المشروع، وغيرها من مواد اصلاحية في المشروع ترمي الى المساءلة والمحاسبة. ولو كانت النوايا الاصلاحية سليمة لاختار النواب التركيز على هذه المواد أولاً لتكريسها وايجاد الادوات التنفيذية اللازمة لها، وذلك لسببين: الأول لتبرير ان النواب (ومن وراءهم من قوى سياسية وزعماء) ليسوا شركاء في الجرائم المالية، والثاني لخفض رقم الخسائر (الى النصف وفق مصدر نقدي رفيع) بحيث يصبح إنصاف المودعين اصحاب المال النظيف اسهل واسرع واكثر عدالة.
لكن نواب المنظومة الشريكة في الجرائم سيقفزون حتماً وأولاً الى تلك المواد التي يرون انها مجحفة بحق المودعين ليتخذوا منها متراساً شعبوياً لاسقاط المشروع والظهور بمظهر المناصر للمودعين المظلومين، وبذلك أيضاً يهربون من استحقاق محاسبة شركائهم في الجريمة، اي انهم سيحمون المصرفيين.
سيتحجّجون بالأرقام الناقصة… إنه مسمار جحا
كما سيتحجّجون بأن الخطة لا ارقام فيها، وان لا تدقيق بعد في موجودات المصارف، علماً بأن لدى لجنة الرقابة على المصارف ومصرف لبنان معظم الأرقام المطلوبة والارقام التي تعتبر مؤشرات مساعدة على اتخاذ القرار. وهنا تجدر الاشارة الى ان مطلب التدقيق في موجودات المصارف الوارد في الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد الدولي فشلت الحكومة في تلبيته لاسباب غير مفهومة، وأخرى موضوعية مثل ان شركات التدقيق العالمية المصنفة جيداً تتجنب لبنان حالياً، واتضح انها غير منجذبة لهذا النوع من العمل مع مصارف الزومبي. كما ان كلفة التدقيق في كامل وحدات النظام المصرفي قد تصل الى 30 مليون دولار ولم تجرؤ الحكومة على تخصيص اعتماد لذلك لاسباب مجهولة. أما نواب المنظومة فتركوا هذا الامر معلقاً كمسمار جحا يستخدمونه متى يشاؤون للتهرب من مسؤولياتهم متجاهلين أنه كان يمكنهم اجبار الحكومة على ادراج هذا المبلغ ضمن موازنة 2024، لكنهم غضوا الطرف عمداً، بينما تنبهوا لتفاصيل كثيرة اخرى تخدم اجنداتهم في الترويج لانقاذ البلاد والعباد من موازنة «كارثية».
على اي حال، اذا اراد نواب المنظومة باستطاعتهم طلب الارقام من لجنة الرقابة على المصارف ومصرف لبنان لتسهيل المهمة، لكنهم لن يفعلوا ذلك بسهولة لأن امامهم متسعاً من الوقت للتصويب على ما هو مجحف بحق المودعين، وهذا مربح لهم انتخابياً وقد يمعنون في ذلك حتى انتخابات 2026 وبعد ذلك «يصير خير» !
«الثنائي» يفتح بازار التنصّل من صندوق النقد
أما عن مصير النقاش حول ما اذا كان المشروع متوافقاً مع الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد الدولي فسهل تنبؤه لو رجعنا الى المناقشات التي دارت في جلسة عقدت منتصف كانون الاول الماضي في مجلس النواب عندما نوقش مشروع قانون الكابيتال كونترول، إذ انبرى «الثنائي» ليعبر عن رفضه لذلك الاتفاق وبالفم الملآن. فقد سأل في الجلسة نائب حركة «أمل» قبلان قبلان ما اذا كان صندوق النقد موافقاً على المشروع فرد سعادة الشامي بأنه غير موافق على الصيغة المطروحة، فما كان من قبلان الا القول عالياً وفخوراً: «اذاً يجب اقرار المشروع لأن الصندوق لا يرغب به». وكان للنائب علي فياض (حزب الله) تعليق واضح وصريح ومباشر عندما قال: «صندوق النقد لا تهمه مصلحتنا ولا يجب ان نربط تشريعاتنا به». وبذلك يكون الثنائي قد فتح بازار تقويض الاتفاق مع الصندوق، وستنضم اليه كتل أخرى تحت عناوين مختلفة اهمها «استخدام ايرادات اصول الدولة لرد الودائع».
على هذا النحو ستكر سبحة إفصاح نواب المنظومة الآخرين عن مكنونات رفضهم للاتفاق مع الصندوق، وستأتي قضية المودعين شحمة على فطيرة.
الصندوق: لا يمكن تحميل الدولة فوق طاقتها
يذكر ان صندوق النقد لا ينصح بالتوسع في استخدام اصول الدولة وايراداتها لاطفاء الخسائر، وتساهل فقط بحدود 2.5 مليار دولار لرسملة مصرف لبنان.
برأي صندوق النقد لا يمكن تحميل الدولة ما لا تستطيع حمله. فعليها اولاً اعادة هيكلة الدين العام وضمناً التوصل الى اتفاق مع حملة اليوروبوندز وصولاً الى هدف استدامة الدين العام بمعدل محمول لذلك الدين مقابل الناتج، كما الاخذ في الاعتبار ان لبنان مقبل على قروض جديدة من الصندوق والدول والمؤسسات التمويلية الاجنبية والعربية. وهناك ضرورات الانفاق الاجتماعي والانفاق الاستثماري من ايرادات اصول الدولة التي لا تكفي وحدها وبالتالي ستزيد الضرائب والرسوم. فإذا اضيف بند رد الودائع من ايرادات الاصول العامة يصبح لبنان خارج الاتفاق مع الصندوق، وبالتالي سيصعب جداً الحصول على قروض عربية ودولية، وتنكشف الدولة على دعاوى شرسة قد يشنها حملة اليوروبوندز على لبنان في محاكم دولية ابرزها في نيويورك.
أصول بأسوأ وضع.. والإيرادت ضحلة
لا شك في أن شعار استخدام ايرادات اصول الدولة لرد الودائع محفوف بالمخاطر، لكن نواب المنظومة وزعماءها يستخفون بالمخاطر دائماً لا بل يركبونها طالما يستطيعون الاستدامة في مواقعهم ومحاصصاتهم. وتتعين الاشارة الى ان اصول الدول بأسوأ وضع تاريخي سواء في الكهرباء والاتصالات والمرافق مثل المطار والمرفأ، فضلاً عن اهتراء شبكات المواصلات والصرف الصحي والمياه… أما الأصول المدرة للدخل منها فلا تشكل ايراداتها حاليا سوى 16% من اجمالي ايرادات موازنة 2024 اي نحو 550 مليون دولار بالأسعار الجديدة للدولار، في موازنة أغفلت الدين العام وفوائده ونفقات أخرى بنحو مليار دولار. فما هي المعجزة التي ستقفز بهذه الايرادات الى مليار او ملياري دولار ليقتطع منها جزء لرد الودائع؟ في هذا الإطار نحن نتحدث عن 50 الى 60 سنة في افضل تقدير… لو يعلم نواب الأمة الشعبويون!