موازنة 2024 بخست حقوق موظفي القطاع العام

ما زالت حكومة تصريف الاعمال تتخبّط في مسألة رواتب القطاع العامّ، حيث أنّها تخاف من الدخول في عملية تصحيح الرواتب إذْ أنّه من المُمكن، برأيها، أن تتسبّب بتداعيات شبيهة بما حصل عند إقرار آخر سلسلة للرتب والرواتب في 2017 بكلفة عالية جداً زادت العجز في الموازنة وبالتالي فاقمت الدين العام برأي معارضي تلك السلسلة آنذاك ولاحقاً. إلّا أنّ هذا المنطق الذي يختبئ البعض وراءه لا يؤيّده أصحاب الإختصاص والخبراء من هذا الإطار حيث يرفضون الدعوة إلى ترشيد القطاع العام معتبرين أنّ أغلبية المؤسسات بحاجة إلى هذا العدد من الموظفين، وبالتالي هذه «الحجة» ساقطة.

الإحصاءات تتحدث

الباحث المتخصّص بقضايا العمال أسعد سمّور، يذكّربـ «المسح الشامل، الذي أنجزه مجلس الخدمة المدنية، في العام 2022، والذي أظهر أن إجمالي عدد الموظفين والأجراء والعاملين بمختلف مسمياتهم باستثناء الأسلاك العسكرية والبعثات الدبلوماسية يبلغ 82256 شخصاً. فيما يُقدرعدد العاملين في الأسلاك العسكرية بحوالى 130 ألفاً. ما يعني أن عدد العاملين في الإدارة العامة يصل إلى حوالى 210 آلاف شخص. تحتل الأسلاك العسكرية المرتبة الأولى لجهة عدد الموظفين، يليها أعضاء الهيئة التعليمية حيث ان المتعاقدين والملاك (المتفرغين) يبلغ عددهم 45075 شخصاً، ويشكل هؤلاء نصف الجهاز المدني. بالتالي، ما تبقى من إجمالي العدد موظفي الجهاز الإداري عددهم ضئيل جدّاً وغير كاف لتغطية المؤسسات الضرورية لإدارة شؤون البلد مثل المالية، الضمان، الأشغال، التفتيش المركزي… وإذا تم القيام بإحصاءات دقيقة حول الشغور في مختلف المؤسسات والفئات، يتبيّن بشكل واضح حجم الخلل في دور الدولة ومدى النقص الذي يمنعها من التواجد السليم ضمن الحياة السياسية الاقتصادية والإجتماعية في البلد».

القرار… سياسي

ويعتبر سمّور خلال حديثٍ مع «نداء الوطن»، أن «قدرة الدولة على منح الموظفين مطالبهم هو قرار سياسي مرتبط برؤية المسؤولين لدور الدولة. وكان من الممكن زيادة الإنفاق على الخدمات العامة من خلال فرض ضرائب على أرباح الذين إستفادوا من الأزمة، محققين ايرادات طائلة منها، إلا أن لا نية لفرض ضرائب على هذه الجهات».

شغورٌ كبير

ويلفت سمّور إلى أن «الموظفين حاجة ضرورية لتسيير شؤون القطاع العام، في حين أن حجم الشغور كبير في الإدارات الأساسية. فمثلاً من دون موظفين لا يمكن تحصيل الضرائب التي تساهم في تحقيق إيرادات إضافية للإنفاق على الرواتب أو على الحماية الاجتماعية أو القيام بإنفاق استثماري لتحسين الخدمات العامة. تساهم الوظيفة العامة في تسهيل عمل القطاع الخاص، وفي تقديم الخدمة العامة، وفي الرقابة على الخدمات العامة نفسها. والتخلي عن المزيد من الموظفين بحجة أن مصاريفهم كبيرة يعني تقليص دور الدولة وإنتهاء معالمها أكثر فأكثر، في حين أن الجميع يشتكي راهناً من غيابها. وفي ظل الرواتب والأجور الحالية، يخسر القطاع العام أصحاب الكفاءات الذين يساعدون الدولة وقطاعاتها على النهوض».

رشوة الموظفين؟

وبالنسبة إلى المرسوم 11227 المُقرّر تعديله، يعلّق مشيراً إلى أن «الزيادات إن أقرت ضمن المرسوم لن تلحق بتعويضات نهاية الخدمة ، ومن المتوقع أن ترتفع معاشات التقاعد حوالى ثمانية أضعاف في حين الليرة اللبنانية خسرت 98% من قيمتها. كل ما يحصل اليوم يدل على أن الموظف بات عليه التسول للحصول على راتبه، وكل المسميات التي وضعت مثل بدل الإنتاجية وبدل الحضور وغيرها لا أساس لها وتعتبر إختراعات لرشوة الموظفين ووضع زيادات على رواتبهم لا تحتسب ضمن تعويض نهاية الخدمة».

ترقيع وفوضى

ويستغرب سمّور كيف أن «مناقشة الزيادات على الرواتب تلي جلسة مناقشة الموازنة في حين أن الزيادات من ضمن النفقات»، سائلاً «لماذا لم تتم مناقشتها مع الموازنة؟ ما الغاية وما الذي يحاولون القيام به؟ قد تم شطب مقترحات فرض ضرائب على الذين حققوا أرباحاً طائلة من المضاربات العقارية، فكيف يقول المسؤولون أن لا عجز في الموازنة في حين ستضاف نفقات وتقلص إيرادات من دون تسجيلها ضمن الموازنة؟ هناك كمّ غير طبيعي من الترقيع والفوضى واللامبالاة «.

فرصة لإعادة الهيكلة

ويؤكد وجود «فرصة لإعادة هيكلة القطاع العام، خصوصاً في ظل شغور 70% من الوظائف في عدد من القطاعات . لكن، المشكلة ليست في إعادة الهيكلة بل في الهجوم المستمر على زيادة إنفاق الدولة من قبل كبار المستفيدين من الأزمة، لأن زيادة الإنفاق ستعني فرض ضرائب عليهم، علماً أن قدرتهم على الدفع تفوق قدرة المواطنين والموظفين العاديين والذين فرضت عليهم ضرائب ورسوم جديدة».

ويعتبر «أن التوجهات السياسية تمثل مصالح فئات تشكل 1 أو 2% من المجتمع اللبناني وتسيطر على الجزء الأكبر من الثروة. هؤلاء لا يريدون أصلاً وجود الدولة في حين أن ذلك يهدد ويضرّ القوى العاملة في القطاعين العام والخاص على السواء».

ويختم سمّور «منذ سنوات طويلة تتبع الدولة السياسة نفسها وهي سياسة التقشف، فهي لا تريد الإنفاق على مقومات الحياة الأساسية، لذلك يظهر بند الرواتب والأجور متضخماً وكسبب للهجوم على حقوق الموظفين، والدعوات لتخفيض عددهم بهدف التخفيف من النفقات. في حين أن المطلوب تعزيز دور الدولة عبر زيادة الإنفاق الاستثماري والاجتماعي، وتحسين جودة الإدارة العامة، عبر تعزيز الإيرادات الضريبية من خلال تخفيض الضرائب على المواطنين وزيادتها على الذين يحققون أرباحا، وفي هذه الحالة يمكن دفع الرواتب أو زيادة الإنفاق وحتّى تغيير بنية الموازنة بأكملها».

لوم في غير محله

الإحصائي د. بشارة حنا خلال حديثٍ مع صحيفة «نداء الوطن»، يؤكّد ايضاً أنّ «عدد الموظفين في القطاع العام، ليس كما يصوّره الكثير من الإقتصاديين الذين يفتقرون إلى المعلومات الوافية والدقيقة حول الموضوع وكلفته على الدولة»، معتبراً أن «إلقاء اللوم على سلسلة الرتب والرواتب التي أُقِرَّت عام 2017، في غير محله. فعدد العاملين في القطاع العام لا يتجاوز العدد الموجود في بعض البلدان الأوروبية التي تضع معايير معينة للتوظيف حيث يتراوح المعدل الوسطي ما بين 6 و8 في المئة، بينما يبلغ في لبنان نحو الـ8 %»، لافتاً إلى أن «عدد القوات المسلحة الذي يجب أن يكون كبيراً في بلد مثل لبنان، يتم إدراجه ضمن أعداد العاملين، ما يؤدي إلى أخطاء استراتيجية في التعاطي مع قضية القطاع العام. ان لبنان موجود في منطقة تحتاج إلى عدد كبير من هذه القوات لتفادي الانعكاسات الأمنية على الاقتصاد»، مؤكداً أنه «عندما كانت السلطة الأمنية قوية عددياً، لم يتمكن أحد من هزّ الإقتصاد عبر الأمن. لذلك، لجأوا إلى وسائل متعددة منها إضعاف المؤسسات».

أضرب واهرب

وعمّا اذا كانت الدولة قادرة على تأمين مطالب القطاع العام، يجيب حنا: «لقد نشرت دراسة في «نداء الوطن» في وقتٍ سابق تؤكد أن عملية السرقة والنهب بلغت 322 مليار دولار، أي حوالى 16 مليار دولار سنوياً على مدى عشرين عاماً. وفي حال كانت استثمرت هذه الأموال في القطاع العام، لا تؤمن الرواتب فقط بل يصبح الموظف منتجاً ومثالياً. على صعيد آخر، ارتفعت الأسعار بالدولار بنسبة 40%، وهذا الإرتفاع يطرح نقاشاً مفتوحاً لأن هذه الزيادات تؤدي الى إفقار البلد والاقتصاد لأسباب متعددة. التجار يعتمدون مبدأ «أضرب واهرب» أي أنهم يرفعون الأسعار عشوائياً بسبب عدم الثبات، لا سيما في ظلّ غياب الرقابة».

أرقامٌ مفبركة

بناءً على ما تقدّم، يعرب عن اعتقاده بأنه يمكن للدولة «تأمين إيرادات إضافية من مصادر مختلفة منها الكسارات والأملاك البحرية والنهرية، والمرفأ… هذه كلها يهيمن عليها حوالى خمس فئات سياسية موجودة في هذه القطاعات كلها».

ويتمنّى حنا على الإقتصاديين أن «يتوقفوا عن فبركة أرقام غير صحيحة بالنسبة إلى الإيرادات المُمكن أن تحققها الدولة، والتي يمكن ان تصل إلى ما بين 5 و8 مليارات دولار ومن المفترض ان تكون الإيرادات اليوم ما بين 8 و11 مليار دولار»، مذكراً بأن «دراسة ماكينزي» كانت نصت على القدرة على تأمين إيرادات اضافية بقيمة 5 مليارات دولار».

الحل بخطوات تدريجية

وعن كيفية حلّ معضلة الرواتب، يؤكد حنا ان «الخطوات يجب أن تكون تدريجية بغية الوصول الى حلّ مستدام، وهذا ما وضعته في برنامج أعددته عام 2020 لكنني لم أعرضه على المعنيين لأن لا أحد يود أن يسمع. يقترح البرنامج تأمين واردات سنوية تتراوح ما بين 5 و8 مليارات دولار، ويبدأ ذلك تدريجياً عبر زيادة مليار دولار على قيمة الواردات كل سنة، ترفق بزيادة على رواتب الموظفين بحوالى 300 مليون دولار ويصار إلى الإستثمار في المبالغ المتبقية. وبعد ثلاث سنوات من تطبيق هذه الخطة، تتمكن الدولة من زيادة القدرة الشرائية للمواطن من دون أن يتأثر الإقتصاد ومن دون رفع الضرائب التي ترتد سلباً على قدرة القطاع الخاص الإستثمارية».

زيادة عدد المؤسسات

ويكشف أن «العدد السنوي للمؤسسات الخاصة يزداد ما بين الخمسة والستة في المئة، وهي نسبة لم يشهدها لبنان منذ فترة طويلة جداً ، مثل المؤسسات الانتاجية المتعلقة بتكنولوجيا المعلومات التي تنتج قيمة مضافة بالنسبة إلى الاقتصاد اللبناني. المتوسط العالمي لإنتاج تكنولوجيا المعلومات يبلغ 15% من الناتج الوطني، بينما في لبنان تصل هذه النسبة إلى 25 في المئة، وتزداد بشكل مطرد. هذا جزء من مصادر التمويل لحلّ أزمة الرواتب. لا يحق للمسؤولين زيادة الضرائب كما يحصل اليوم، لأنهم بذلك يغطون سرقاتهم المستمرة في مختلف المجالات ومصادر تمويل الدولة التي ما زالوا يخفونها. وأكبر دليل على ذلك، إستمرار عملية النهب في قطاع الكهرباء».

12 ألف سلعة منتجة محلياً

ويختم حنا مطالباً الإقتصاديين بأن «يتحولوا الى التقنيات الكمية لنمو الاقتصاد»، مشيراً الى ان الدراسة التي قام بها «تؤكد انه يمكن خلق توازن وزيادة مطردة بالاقتصاد اللبناني تعوّض النقص. لذلك، لسنا بحاجة إلى قروض من صندوق النقد الدولي الذي يفرض علينا هيمنته. وبيّنت دراسة عام 2021 عن القطاع الصناعي، ان في لبنان 12 معملاً لإنتاج الأدوية، وسيصبح العدد قريباً 15. هذا القطاع بات يؤمن إنتاجاً تقريبياً يوازي أكثر من 30 في المئة للسوق المحلي إضافة الى صادراته الى الخارج. أكثر من ذلك، أصبح هناك أكثر من 12 ألف سلعة جديدة منتجة محلياً وهي في السوق الإستهلاكية اللبنانية. لذلك لا خوف على الإقتصاد، يكفي أن يتفق المسؤولون بين بعضهم البعض».

مصدرنداء الوطن - رماح هاشم
المادة السابقةجمعيات المودعين: مشروع قانون معالجة أوضاع المصارف مرفوض جملة وتفصيلاً!
المقالة القادمةشعار “الودائع المقدّسة” كلّف المودعين 50 مليار دولار… والآتي أعظم مع استخدام إيرادات الدولة لردّ الودائع!