“صفقة” سلامة: الرضوخ للإصلاحات مقابل خروجه الآمن بنهاية السنة

على حين غرّة، عاد سلامة ليقدّم تنازلات كبيرة في ملفّات مختلفة، يرتبط أغلبها بالشروط الإصلاحيّة المفروضة من الخارج: من ملف نسب الخسائر التي يفترض أن تتحضّر لها المصارف، إلى التدقيق الجنائي، وصولاً إلى التعاون مع لازارد، وتقديم معطيات لطالما رفض الإفصاح عنها. في كل هذه الملفّات، تحوّل أداء سلامة من التعنّت والرفض ورفع السقف في وجه الجميع، إلى إبداء التعاون النسبي. ولو أن هذا التعاون لم يرقَ إلى رتبة الامتثال التام للشروط الإصلاحيّة الخارجيّة.

كل هذه التحوّلات، لا يمكن فصلها عن ما بدأ يتسرّب مؤخّراً من أروقة السراي الحكومي، بخصوص تحضير حاكم مصرف لبنان لانسحاب آمن من منصبه، في مطلع السنة الجديدة. إذ يبدو أن هذا الانسحاب الآمن بات يفرض على الحاكم تقديم تنازلات وازنة للعواصم الغربيّة، في محاولة للتخفيف من ضغط الملاحقات القضائيّة التي تقلقه قبل خروجه من حاكميّة المصرف المركزي. لسان حال سلامة يقول: الإصلاحات مقابل خروجي الآمن.

تتراوح قيمة التزامات مصرف لبنان لمصلحة المصارف بالعملات الأجنبيّة ما بين 70 و80 مليار دولار. ويصعب تقدير هذا الرقم بدقّة لكون مصرف لبنان يخلط في ميزانيّاته وميزانيات المصارف ما بين التزاماته المقوّمة بالليرة اللبنانيّة، وتلك المقوّمة بالعملات الأجنبيّة. لكن في كل الحالات، وفي مقابل كتلة الالتزامات هذه المتوجبة على مصرف لبنان بالعملة الصعبة، لم تعد تتعدّى الاحتياطات السائلة الموجودة لدى المصرف بالعملات الأجنبيّة حدود 13.6 مليار دولار، بما فيها تلك المتأتية من حقوق السحب الخاصة التي حصل عليها لبنان من صندوق النقد الدولي. والفارق بين القيمتين، من دون احتساب احتياطات الذهب، الذي لا يمكن استخدامه من دون تشريع خاص، يمثّل فجوة خسائر مصرف لبنان.

في النهاية، قرر مصرف لبنان في تعاميم إعادة الرسملة أن يطلب من المصارف توقّع خسائر لا تتجاوز نسبتها 1.89% من توظيفاتها لدى المصرف المركزي، وتكوين المؤونات على هذا الأساس، وهو ما يمثّل نسبة هزيلة لا تتوافق حكماً مع حجم الخسائر الفعليّة المحققة. وهذه الخطوة بالتحديد أثارت حفيظة صندوق النقد الدولي، والجهات الدوليّة التي تتبنّى شروطه بالنسبة للملف اللبناني، نظراً لإصرار الصندوق على تحديد هذه الخسائر بشكل صريح وشفّاف، بالإضافة إلى الخسائر الأخرى المرتبطة بسندات الدين السيادي المملوكة من المصارف. وهذه الخطوة يعتبرها الصندوق شرطاً إصلاحياً لا يمكن تجاوزه في أي خطة ماليّة يمكن أن يتفاهم عليها مع لبنان.

اليوم، ثمّة ما بدأ يتغيّر في أداء حاكم مصرف لبنان بخصوص هذا الملف. فبعد مرور أكثر من عامين على حصول الانهيار المصرفي، قرّر سلامة منذ أيام مصارحة جمعيّة المصارف بضرورة رفع نسبة الخسائر المتوقّعة من توظيفاتها لدى مصرف لبنان، مطالباً برفع هذه النسبة إلى حدود الثلث تقريباً. جمعيّة المصارف لم تبدِ الكثير من الحماسة لطرح سلامة، كون تكوين مؤونات للتعامل مع خسائر بهذا الحجم يمكن أن يلتهم رساميل معظم المصارف العاملة حاليّاً. ولهذا السبب، دخلت الجمعيّة في عمليّة تفاوض تقنيّة مع المصرف المركزي، لجدولة عمليّة تكوين المؤونات والتعامل مع الخسائر على مدى سنوات عدّة، وهو ما سيسمح لها بتكوين الرساميل المطلوبة لهذه الغاية تدريجيّاً. مع الإشارة إلى أن عمليّة تكوين هذه الرساميل تتم في الوقت الراهن من خلال تحويل ودائع مصرفيّة عالقة داخل القطاع إلى أسهم، أو تقديم عقارات يمكن تسييلها لاحقاً.

في ملف التدقيق الجنائي، من الأكيد أن السلطة السياسيّة حشرت مهمّة آلفاريز آند مرسال في الأسابيع الأخيرة من المهلة التي ينص عليها قانون رفع السريّة المصرفيّة لغايات التدقيق الجنائي، وهو ما سيسمح بإجراء تقرير التدقيق الأولي من دون تطويره إلى تدقيق مفصّل. لكن بمعزل عن هذه المناورة التي جرى على أساسها إعادة إطلاق التدقيق، تنقل أوساط وزارة الماليّة اليوم تحوّلاً مفاجئاً في تعامل حاكم مصرف لبنان مع آلفاريز آند مارسال، من ناحية سرعة التجاوب مع طلباتها، وتقديم المستندات المطلوبة، من دون افتعال العراقيل التي تفنن في اختلاقها سابقاً.

كل هذه التطوّرات تدل على تحضير حاكم مصرف لبنان لانسحابه الآمن في مطلع العام المقبل، كما تشير إلى ذلك مصادر رئاسة الحكومة. والحاكم الملاحق بالدعاوى القضائيّة في الخارج، يدرك أنّه بحاجة إلى تقديم مجموعة من التنازلات للمجتمع الدولي في الملفات الماليّة المرتبطة بمصرف لبنان، للتمكّن من الخروج من حاكميّة المصرف المركزي بأقل أضرار ممكنة.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةلا أزمة بنزين.. لكن الطوابير عادت!
المقالة القادمة“لا تبيعوا”… خبير: البلد ع كفّ عفريت والدولار إلى الإرتفاع!