أكثر من ثلث الاقتصاد العالمي سيشهد انكماشات هذه السنة أو السنة المقبلة، فيما ستستمر أكبر ثلاث اقتصادات في العالم (أوروبا، الولايات المتحدة، والصين) في حالة المراوحة التي تشهدها اليوم. نسبة نمو الاقتصاد العالمي ستنخفض من مستوى 6% التي شهدناها خلال العام الماضي، إلى 3.2% هذه السنة، وصولًا إلى 2.7% خلال العام المقبل. وسيكون العالم أمام ثلاثة تحديّات تواجه الاقتصادات العالميّة: التباطؤ الاقتصادي في الصين، واستمرار الارتفاع في كلفة المعيشة نتيجة معدلات التضخّم المرتفعة، ونتائج الغزو الروسي لأوكرانيا. أمّا معدّلات التضخّم بالتحديد، فارتفعت إلى أعلى مستوياتها منذ عقود، لتتجاوز هذه السنة حدود 8.8%، مقارنة بـ4.7% خلال العام الماضي.
عام الكساد الاقتصادي
كل ما سبق، كان بعض ما ورد في تقرير “آفاق الاقتصاد العالمي” الدوري الذي أصدره صندوق النقد الدولي يوم أمس الثلاثاء، والذي خلص إلى نتيجة واحدة: الأسوأ بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي لم يأت بعد، وبالنسبة إلى كثيرين حول أنحاء العالم، سيكون العام المقبل عام الكساد الاقتصادي.
فأسعار الغذاء والطاقة قد تشهد خلال الفترة المقبلة صدمات إضافيّة، ما قد يدفع معدلات التضخّم لتسجيل ارتفاعات إضافيّة. أمّا الضغوط النقديّة المتزايدة، فستطلق العنان قريبًا لأزمة ديون في الأسواق الناشئة، نتيجة ارتفاع معدلات الفوائد العالميّة. ولذلك، ستستمر نسبة الاقتصادات العالميّة التي ستواجه مخاطر التباطؤ أو حتّى الركود بالارتفاع خلال الفترة المقبلة، ما يجعل الاقتصاد العالمي يعيش أسوأ أيامه منذ العام 2001، إذا ما استثنينا مرحلتي الأزمة الماليّة العالميّة وتفشي وباء كورونا.
الغزو الروسي لأوكرانيا يزعزع الاقتصاد العالمي بأسره
يشير التقرير إلى أنّ الغزو الروسي لأوكرانيا يستمر في الوقت الراهن بزعزعة الاقتصاد العالمي بأشكال مختلفة. فخفض واردات الغاز الروسي إلى أوروبا إلى 20% من مستويات العام الماضي، أدّى إلى تضاعف أسعار الغاز في أوروبا بنحو أربع مرّات، ما يفتح المجال أمام شح إمدادات الطاقة خلال فصل الشتاء المقبل. وهذه الخضّة ستكون كفيلة بزيادة الأسعار في الأسواق العالميّة، وزيادة الضغوط على معدلات النمو الاقتصادي. وفي الوقت الراهن، يستمر الغزو الروسي بالتسبب بزيادات معتبرة في أسعار المواد الغذائيّة حول أنحاء العالم، بفعل تهديد سلاسل الإمداد، ما يمثّل تحديًا كبيرًا بالنسبة إلى الأسر الفقيرة في جميع الدول، وخصوصًا الدول المنخفضة الدخل.
قوّة الدولار تهدد الأسواق الناشئة
وفقًا للتقرير، تعاني الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية من ضغوط خارجيّة قاسية، فيما تزداد وطأة هذه الضغوط اليوم بفعل تنامي قوّة الدولار وارتفاع سعر صرفه مقابل عملات هذه الدول. يساهم الدولار القوي اليوم -حسب الصندوق- بزيادة كلفة المعيشة في هذه الدول، وتنامي أزمات الديون لديها، ما سينكأ جراحها الاقتصاديّة التي لم تندمل بعد منذ بدء تعافيها من أزمة وباء كورونا. ومع استمرار ارتفاع الفوائد في الولايات المتحدة، وشح التحويلات إلى الأسواق الناشئة نتيجة ذلك، من المتوقّع أن تستمر هذه الأزمة بالضغط على الدول المنخفضة الدخل. مع الإشارة إلى أنّ التقرير لفت إلى أنّ الدولار يسجّل اليوم أعلى مستوياته منذ بدايات القرن الواحد والعشرين، من خلال رصد قيمته مقابل سلّة من عملات الاقتصادات المتقدّمة والسلع الأساسيّة.
أزمة الاقتصاد الصيني تهدد الاقتصاد العالمي
يمثّل القطاع العقاري نحو خُمس النشاط الاقتصادي في الصين، فيما يعاني هذا القطاع من تأزّم غير مسبوق، وهو ما بات يهدد معدلات النمو الاقتصادي في الصين. كما استمرّت الصين هذه السنة بمواجهة الضغوط الناتجة عن عودة حالات الإقفال الشاملة، المرتبطة بسياسة “صفر كورونا” التي تعتمدها، وخصوصًا خلال الربع الثاني من هذا العام. ونظرًا لحجم الاقتصاد الصيني ونسبته من الناتج المحلّي العالمي، من المتوقّع أن تضغط كل هذه التطوّرات على سلاسل التوريد العالميّة والنشاط التجاري الدولي بشكل عام.
أزمة كلفة المعيشة ومخاطر السياسات النقديّة الخاطئة
في الوقت الراهن، تبقى الضغوط التضخميّة وارتفاع الأسعار في جميع الاقتصادات العالميّة التهديد الأكثر خطورة، بسبب دورها في تقليص القدرة الشرائيّة للأجور وزيادة معدلات الفقر وتهديد الأمن الغذائي في الدول المنخفضة الدخل. ومن الناحية العمليّة، تسعى المصارف المركزيّة حول أنحاء العالم إلى التعامل مع هذه الظاهرة عبر زيادة معدلات الفوائد، واعتماد سياسات نقديّة متشددة قادرة على كبح معدلات التضخّم. إلا أن التقرير يشير إلى مخاطر إساءة تقدير الموقف من قبل المصارف المركزيّة، عبر الإفراط في سياسات التشديد النقدي (من قبيل رفع معدلات الفوائد)، أو على العكس تمامًا، الإفراط في التساهل وعدم التشديد بما فيه الكفاية.
فالإفراط في سياسات التشديد النقدي ورفع معدلات الفوائد قد يؤدّي إلى دفع الاقتصادات العالميّة إلى حالة من الركود بلا داع، ناهيك عن تداعيات هذه السياسات على مستوى كلفة الاستدانة والضغط على ميزانيّات الدول النامية والأسواق الناشئة. كما قد تعاني الأسواق الماليّة حول أنحاء العالم من تداعيات التشديد النقدي المفاجئ، وارتفاع كلفة الديون على الشركات والأفراد. وفي المقابل، قد يؤدّي التساهل في اتخاذ هذه القرارات، أي عدم التشدد بما فيه الكفاية، إلى تنامي مخاطر التضخّم في جميع الأسواق العالميّة، وفقدان المصارف المركزيّة مصداقيّتها.
وفي الوقت الذي تبدو فيه الموازنة بين التشدد والتساهل النقدي بديهيّة وسهلة إلى حدٍّ ما، يشير التقرير إلى ارتفاع مخاطر الخطأ في “معايرة السياسات النقديّة وسياسات الماليّة العامّة والقطاع المالي”، في ظل حالة عدم اليقين السائدة وغموض المؤشرات الماليّة والنقديّة. وبهذا المعنى، فالتقرير يشير ببساطة إلى ارتفاع مخاطر وقوع المصارف المركزيّة في فخ التشديد المفرط، أو التساهل النقدي، بخلاف الانطباع الذي يمكن أن يشير إلى سهولة الموازنة بينها.
حماية الفئات الأكثر هشاشة
التحدّي الأساسي الذي سيواجه جميع الاقتصادات العالميّة اليوم، يتركّز على كيفيّة حماية الفئات الأكثر هشاشة، وهو ما يلفت النظر إليه التقرير، في مقابل التحذير من السياسات التي يمكن أن تترك عواقب وخيمة على هذه الفئات. فمحاولة ضبط أسعار مصادر الطاقة وفرض سقوف عليها، أو تأمين دعم لأسعارها بشكل غير موجّه، أو حظر التصدير، كلها إجراءات ستفرض أكلافاً باهظة على الميزانيّات العامّة ونقص الإمدادات وسوء التوزيع وفرط الطلب، من دون أن تحقق الغرض منها. في حين أنّ سياسة الماليّة العامّة يفترض ان تستهدف حماية الفئات الأكثر هشاشة، من خلال الدعم المباشر والموجّه، وصرف تحويلات موجّهة ومؤقتة إليهم.
في مقابل هذه الصورة القاتمة، تستعد المصارف المركزيّة والحكومات حول أنحاء العالم لتحديد خياراتها الماليّة والنقديّة، بما يسمح بصياغة سياسات ملائمة لحالة التأزّم التي تعصف بالاقتصاد العالمي، وبما يسمح بالتحوّط تجاه المخاطر الخارجيّة المقبلة. في حالة لبنان، الذي يمر بأزمة جعلته أكثر انكشافًا تجاه هذه المخاطر، لا يبدو أنّ ثمّة من يعير هذه المتغيّرات أي اهتمام، رغم خطورة بعض التطورات والتوقعات التي أشار إليها التقرير، وتحديدًا تلك المتعلّقة بارتفاع سعر السلع الأساسيّة في الأسواق الدوليّة، ما سيعني ارتفاع الحالة للعملة الصعبة للاستيراد.