طربيه: «قدسية» الودائع في المصارف اللبنانية توجب عدم شطب توظيفاتها

​بدأ مطلع شهر يوليو (تموز) الحالي، العد العكسي لانتهاء الشهر الأخير من الولايات الخمس القانونية والمتمدّدة على مدى 30 عاماً لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وسط ترقّب حذِر في الأوساط كافة بشأن إدارة المرحلة الانتقالية، ومتوتّر أكثر لدى المودعين المقيمين وغير المقيمين في الجهاز المصرفي، والذين يعانون الاقتطاعات الكبيرة في الحصول على حصص سحوبات متدنية، والخوف على أرصدة قائمة تناهز قيودها 95 مليار دولار.

وقد زاد التقييم الأحدث لملف لبنان لدى صندوق النقد الدولي (بموجب المادة الرابعة)، من التوغل العام في حال «عدم اليقين»، بعدما أكد المؤكد مجدداً، أن البلد لا يزال يواجه أزمة مصرفية ونقدية سيادية غير مسبوقة ومستمرة لأكثر من ثلاث سنوات. إذ شهد الاقتصاد انكماشاً ناهز الـ40 في المائة، وفقدت الليرة اللبنانية 98 في المائة من قيمتها، في حين سجل التضخم معدلات غير مسبوقة. كما خسر المصرف المركزي ثلثي احتياطاته من النقد الأجنبي.

وبالفعل، لا يبدو المشهد أقل غموضاً في تقييم الأصول المالية الحقيقية التي يعوّل عليها للحفاظ على استقرار اقتصادي هش ونقدي مصطنع. إذ يبلغ إجمالي احتياطات العملات الصعبة لدى المصرف المركزي نحو 9.5 مليار دولار، يقابله التزامات خارجية قائمة بنحو 1.7 مليار دولار، بينما يبلغ صافي الودائع المصرفية لدى المصارف الخارجية المراسلة نحو المليار دولار، بعد تنقيص الالتزامات المقابلة. في حين يتعذّر، وحتى إشعار تعديل القانون المانع، احتساب احتياط الذهب الذي تقارب قيمته نحو 18 مليار دولار.

ورغم كل هذه الأجواء القاتمة، يشير رئيس الاتحاد الدولي للمصرفيين العرب، والمصرفي اللبناني، الدكتور جوزف طربيه، إلى أهمية التحوّل المفصلي في مقاربة التسنيد القانوني الذي بلوره مجلس شورى الدولة في حيثيات القبول الشكلي للمراجعة المرفوعة إليه من قِبل جمعية المصارف بشأن الاقتراح الحكومي بإلغاء جزء كبير من التزامات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية تجاه المصارف، والذي يعوّل عليه كمرتكز أساسي وقانوني متين لإعادة تصويب بعض التوجهات الحكومية في نطاق تحديد الفجوة المالية وتوزيعات مسؤولياتها وأعبائها على الأطراف المعنية.

وريثما يجري البتّ القانوني والناجز بمضمون المراجعة، يُعِدّ طربيه في حديث خاص مع «الشرق الأوسط»، أن مجرد دخول المجلس على خط، يتكفّل بخلق أجواء مؤسساتية ورسائل إيجابية لكل المعنيين، ولا سيما المودعين في الجهاز المصرفي من مقيمين وغير مقيمين. فالأصل هو سيادة القانون وإحقاق الحق بمنأى عن أي انحرافات أو كيديات حتى ولو تمت بالتشاور مع مؤسسات مالية دولية. ومن الموجبات الملّحة في نطاق تصحيح الانحرافات، التركيز على أولوية طمأنة المودعين غير اللبنانيين، وجلّهم من الأشقاء العرب، ومن أفراد وشركات وصناديق وسواهم، استثمروا وساهموا بفاعلية مشهودة في نهضة القطاع المالي والمصرفي؛ ارتكازاً إلى ثقتهم بمهنية المؤسسات ومتانة القوانين الراعية.

ولم يكن خافياً في مندرجات مشروع قانون إعادة الانتظام المالي، مقابلة فجوة الخسائر لدى المصرف المركزي باقتراح شطب توظيفات المصارف التي تفوق 80 مليار دولار؛ ما اضطر الجمعية إلى رفع الشكوى إلى مجلس الشورى، ليؤكد بدوره «أنه المرجع الصالح لمراقبة خطوات الحكومة في كلّ قرار تتّخذه بإعفاء نفسها من ردّ ودائع الناس، وأن القرار المشكو منه هو فعلياً مصادرة نافذة لودائع المودعين لدى المصارف بمفعول رجعيّ، وهو يؤدّي عمليّاً إلى إلغاء القطاع المصرفيّ اللبنانيّ، ويخلق نزاعاً بين المصارف والمودعين بشكل يخالف قواعد المسؤوليّة».

ومن دون لبس أو إبهام، يُعِدّ طربيه أن سردية الحكومة وبموافقة صندوق النقد لجهة احتساب ديون الدولة خسائر وإعفائها من التزاماتها المالية تجاه المصرف المركزي وشطب عشرات المليارات من الدولارات من الديون، ستترجم في النهاية شطباً للودائع؛ وهو ما يبدو مرفوضاً حتى الآن من المجلس النيابي، حيث يطلق الكثير من النواب شعارات معاكسة تماماً لذلك، وتُلاقي تأييداً لدى جمعيات المودعين على مختلف انتماءاتهم، لعل أبلغها المناداة بـ«قدسية الودائع».

ويؤكد أن «الذين لا يجدون طريقة أخرى للتخلّص من الدين إلا عبر شطبه، يرفضون في الواقع إجراء إصلاح على المالية العامة توقف منافذ الهدر وتحسّن الإيرادات وتضع لبنان على طريق التعافي». في حين تدل مناقشات المجلس النيابي على وجود مواقف رافضة من معظم الكتل النيابية لما تضمنته خطة التعافي من شطب للودائع، حيث تبدو معظم الاتجاهات النيابية لصالح الحفاظ على ودائع المودعين، صغارهم وكبارهم، وبينهم مؤسسات مصرفية عربية ومستثمرون ومودعون عرب أودعوا أموالاً لهم منذ عشرات السنين في المصارف اللبنانية، وكذلك الأمر بالنسبة للمودعين اللبنانيين من مقيمين ومغتربين.

ولذا؛ «لا بد من أن تتعامل إدارة الصندوق مع هذه الحقيقة المبنية على وجود موانع دستورية وقانونية وسياسية تمنع على الدولة شطب الودائع»، وفق قراءة طربيه، وبالتوازي، لا بد للدولة اللبنانية من تحمّل مسؤوليتها عن ديونها، وقيادة الحل من خلال خطة لإعادة الودائع تدريجياً من دون أي بيع لأصولها، وكذلك التفاوض بحسن نية مع دائني سندات الدين الحكومية بالعملات الأجنبية (اليوروبوندز)؛ تمهيداً لاستعادة الشرعية المالية والعودة إلى الأسواق المالية الدولية. كما يجب عدم الاستخفاف بالآثار الاقتصادية والاجتماعية للشطب، وكذلك انعكاساته على التعافي وعلى استعادة الثقة بلبنان وبقطاعه المصرفي.

وفي الأساس، يرى طربيه وجوب «ألّا نغفل أنّ جزءاً مهماً من أزمة لبنان يتطلّب حلاً بالسياسة وليس فقط بالاقتصاد. لذلك؛ يقتضي أن تعود المؤسسات الدستورية إلى عملها ويجري انتخاب رئيس للجمهورية ويعود المجلس النيابي للتشريع وتقوم حكومة مكتملة الصلاحيات ويتم الاحتكام إلى المرجعيات القضائية والقوانين السارية، من أجل تعزيز ثقة المجتمعَين الدولي والعربي بلبنان وبمؤسساته».

وبشأن الملف اللبناني «المعلّق» لدى صندوق النقد الدولي، يربط طربيه التقرير الأحدث وترقباته السلبية بوقائع الأزمة الداخلية الحاضرة، ليوضح، «في الواقع، لم تكن مسيرة التفاوض مع بعثات الصندوق سهلة على مدار الأعوام الثلاثة السابقة، والتي أفضت إلى توقيع الاتفاق الأولي على مستوى فريقي العمل في أبريل (نيسان) من العام الماضي، إنما هو مرفق بلائحة شروط تشريعية وإجرائية تتطلب توافقات سياسية واسعة وتضمن التشاركية الفاعلة بين الحكومة والقطاع الخاص».

يضيف: «نحن اليوم في وضعية أصعب وأكثر تعقيداً، مع وقوع لبنان في مرحلة الفراغ الرئاسي والاشتباك الدستوري الحاصل حول استمرار صلاحية المجلس النيابي في التشريع في ظل تحوله هيئة انتخابية يقتصر نشاطها على انتخاب رئيس للجمهورية ليكتمل عقد السلطات الدستورية. يضاف إلى ذلك دقة المواضيع المطروحة على المجلس النيابي للتشريع بشأنها والتي تتضمن بنوداً لا سابق لها في لبنان، كشطب الودائع وتصفير الرساميل للمصارف، ووضع قيود على حركة الرساميل، وإجراء مراجعة على النظام الضريبي».

أيضاً، ثمة صعوبات قانونية وتقنية تكمن في الوصفات التقليدية أو المستحدثة، كما تشكك جهات كثيرة في لبنان في الكثير من صوابية بعض المعالجات والطروحات القاسية التي تضمنها خطة الصندوق، ومنها خصوصاً ما يتعلق ببنود محددة ضمن مندرجات إلغاء السرية المصرفية، وحيثيات اعتماد ضوابط استثنائية لتقييد الرساميل والتحويلات (الكابيتال كونترول)، وتوحيد وتحرير سعر الصرف، وضبط عجز الموازنة العامة، وشطب الودائع، وإعادة هيكلة المصارف وتصفير رساميلها.

ويتابع طربيه: «في رأينا، بعض الإصلاحات المطلوبة من الصندوق بديهية، وكان يفترض حصولها من دون مداخلة أو طلب منه. بل إنه كان من أول الموجبات الواجب تشريع ضوابط محكمة لحركة السيولة والتحويلات فور اندلاع الأزمة في خريف العام 2019. كذلك، فإنه من مصلحة البلد واقتصاده والمعالجة الناجعة للأزمات وتوابعها الشروع تلقائياً في تنفيذ الإصلاحات الهيكلية، وفي مقدمها المالية والنقدية كإصلاح نظام الضرائب، وترشيد الإنفاق العام، وخفض حجم القطاع العام، وتجنّب العجز في الموازنة العامة، ومكافحة الهدر والفساد، وتحرير سعر الصرف وفق معايير محددة».

ويقول: فعلياً، تتطلب معظم بنود الاتفاق إقرارها بقوانين في المجلس النيابي، وهذا ما حصل حتى الآن بالنسبة لموضوع تعديل قانون السرية المصرفية وإصدار قانون الموازنة العامة لعام 2022، وما يجري مناقشته حالياً في المجلس بالنسبة لموضوع «الكابيتال كونترول» المطلوب من الصندوق إقراره، وتتم مقاربته بتردد؛ لأنه يضع قيوداً على تحويل الرساميل في بلد لطالما تغنّى بالحريات الاقتصادية، وفي مقدمها حرية حركة الرساميل ضمن نظامه المصرفي.

في الخلاصة، يختم طربيه، «إن الاتفاق مع صندوق النقد ممر ضروري للبنان للعودة إلى الشرعية المالية الدولية. لكن التقدم المنشود في هذا المسار معقود على خطة إنقاذ متكاملة وتوزيع عادل لمسؤوليات وأعباء الفجوة المالية. ثم الأهم البعد التشريعي المناط حصراً بالمجلس النيابي، وما سوف يقرّه من قوانين تحفظ المصالح الوطنية العليا للبلد واقتصاده ومواطنيه».

مصدرالشرق الأوسط - علي زين الدين
المادة السابقةالتضخم «الأساسي» في منطقة اليورو يرتفع في يونيو
المقالة القادمةسقوط الوعود بحل مشكلة مستوردي السيارات المستعملة: التفاوض مع المالية معقّد