يُنبئ الوضع الذي وصل إليه لبنان على كافة المستويات أنّ الإنقاذ بات صعباً جداً، وأن الإتفاق مع صندوق النقد الدولي مُهدَّد مع إستمرار الشغور الرئاسي وعدم وجود حكومة أصيلة تستطيع التصدّي للمُشكلات التي تتعقد يوماً بعد يود وتتفاقم كلفة معالجتها.
كيف يرى أهل الإختصاص منافذ الحل؟ وكيف يُقيّمون الوضع الحالي؟ وهل هناك أمل بتوقيع الاتفاق مع صندوق النقد وما هي فرص نجاح هذا الإتفاق؟
يلفت رئيس المجلس الإقتصادي والإجتماعي والبيئي شارل عربيد إلى أنّ «المفاوضات تقدّمت مع صندوق النقد الدولي ومن ثمّ توقفّت، فهناك إتفاق مبدئي معه تمّ إبرامه منذ ما يُقارب الـ 8 أشهر، وعندما تعثّر الوضع في لبنان توقفت المباحثات».
عن حظوظ نجاح الإتفاق مع «الصندوق»، يؤكّد عربيد في حديثٍ مع «نداء الوطن»، أن «هناك حظوظاً كبيرة لنجاح الإتفاق، على إعتبار أنّه ليس لدينا أيّ خيار آخر، ولا مصدر تمويل ثانٍ، لذا من مصلحتنا نجاح الإتفاق مع الصندوق».
لكنه يلفت اللبنانيين إلى أنّ «المبلغ الذي سيعطينا إيّاه الصندوق على مدى 4 أو 5 سنوات ليس هو الذي سيحل مشكلتنا بل سيكون بمثابة «فيزا» لدخول المساعدات إلينا. لأنه مع حصول الإتفاق والسير ببرنامجه، سيضمنون إلتزامنا بالإصلاح، لا سيّما ان رقابة صندوق النقد الدولي سيكون الضمانة ويُشجّع الجهات المانحة أو الممولة لمساعدة لبنان». ويتمنّى «العودة إلى المباحثات مع «الصندوق» من أجل الذهاب قدماً لتوقيع الإتفاق، لكن كل هذا مرهون بالوضع السياسي الداخلي وإمكانيّة عودة إنتظام المؤسسات الدستوريّة وعلى رأسها إنتخاب رئيس للبلاد. فالأمور أصبحت مترابطة ببعضها البعض. ولا يُمكننا التقدم في المسار النقدي والمالي والإقتصادي دون التقدم بالمسار السياسي، لكن للأسف فإن الأفق السياسي مُقفل».
الودائع… مكانك راوح
أما بالنسبة إلى الودائع؟ فيختصر الواقع بكلمتيْن «مكانك راوح»، حيث يعتبرعربيد أنّ «أزمة الودائع هي من أكبر الأزمات التي مرّ بها لبنان في تاريخه. وهي مرتبطة بشكلٍ مباشر بالوضع العامّ».
ويُبدي ملاحظاته على الأزمة، فينتقد «ترك معالجة الملف لمصرف لبنان من خلال تعاميم معيّنة. وهذا أمر غير صحيح، بل كان من المفروض أنْ تكون هناك مبادرة من أصحاب العلاقة مباشرة أيّ المصارف، مع العلم أنني لست ضد القطاع المصرفي فلا إقتصاد من دون مصارف. لكن هناك نوع من العتب على المصارف لعدم تقديمها مشروع حلّ، لا سيّما أنّ المواطنين أودعوا أموالهم في المصارف وليس في مصرف لبنان. وعندما أودعوها كان لديهم ثقة بهذه المصارف بأن ستُدير أموالهم بطريقة سليمة لتحافظ عليها وتضمنها، ولكن ما حصل هو عكس ذلك».
ويقول: «البانوراما العامّة السائدة اليوم تتمثّل بإصدار تعميم من قبل مصرف لبنان وتُدار الأمور على أساسه، فيما المودع مغلوب على أمره وليس لديه أيّ رؤية».
«الكابيتال كونترول» ليس الحل
ويتطرّق إلى قانون «الكابيتال كونترول» حيث، برأيه، سيتمكّن بصيغته النهائيّة بأن يكون البداية في مسار طويل لمعالجة موضوع أزمة الودائع، إلّا أنّه ليس هو الحلّ بل هو إجراء مؤقت وليس مفتوحاً. فنحن إقتصاد حر بمعنى حرية دخول وخروج الأموال. كما ان مصير الودائع مرتبط بقوانين أخرى أيضاً كـ»قانون إعادة التوازن للنظام المالي». فهذا القانون سيُطرح على اللجان النيابية لمناقشته وهو سيُحدّد مصير القطاع المصرفي في لبنان ومصير الودائع، وبتّ مصير الحسابات المؤهلة وغير المؤهّلة. لكن كل هذا مرتبط بإعادة المصداقية والثقة المفقودة الآن بالنظام المصرفي والإقتصادي والنقدي، وكذلك يجب أن نلتمس المصداقيّة عند القيمين على هذا القطاع من مصرفيين ومسؤولين. فهم عليهم إعادة ثقة المودع بهم».
وينتقد «صمت المصارف منذ بداية الأزمة أي منذ 17 تشرين 2019، فهذا الصمت لا يُعزّز العودة إلى العمل ولا عودة الثقة ولا المصداقيّة، ولا وضع خطّة طريق للإنقاذ».
الحلّ الأفضل لردّ الودائع
وأمّا عن الحلّ الأفضل لردّ الودائع، فيرى أنّه «أولاً يجب أن يكون هناك حلّ سياسي ثابت وواضح، ومن ثم تفاهم جدّي بين الدولة والمصارف وكل طرف يتحمّل مسؤوليّته. فالحل يجب أنْ يكون تشاركياً، لأن الوقت يمرّ وهذه الودائع تذوب شيئاً فشيئاً، وهذا إجحاف بحقّ المودع. وهو وضع غير صحيح وغير منطقي وغير دستوري، وحتى غير محق وغير إنساني، لأن جنى عمر الكثيرين يتبخر أمام أعينهم ومغلوب على أمرهم. ولا أحد يُخبرهم أو يضعهم بصورة ما يحصل».
الدولة هي «المُهدر»
على مَن تقع المسؤوليّة؟ يُحمّل عربيد «الدولة المسؤوليّة على إعتبار أنّها هي مَن إستدانت من مصرف لبنان، فالمواطنون وضعوا ودائعهم في المصارف التي قامت هي بدورها بوضعها في مصرف لبنان الذي اقرضها إلى الدولة التي قامت بهدر هذه الأموال ولم تردّها».
إذًا وفق ما يخلص عربيد فإنّ «الدولة هي المسؤول الأوّل فهي التي هدرت الأموال، والمسؤول الثاني مصرف لبنان فهو مَن إضطرّ لأن يُديّن الدولة ويُموّلها، وكان مُجبراً على ذلك، وذهب للبحث عن هندسات ماليّة من أجل تأمين المال لإعطائها، وأمّا المسؤول الثالث فهو المصارف، وكما تقع المسؤولية لكن بجزء قليل على المودع».
ويلفت إلى أنّ «الهدر الحاصل في الدولة مرتبط بالموازنات. فنحن منذ 20 عاماً لدينا عجز في الموازنات، والأمر الأسوأ من ذلك هو أن هذا العجز لم يُستثمر في تنفيذ مشاريع البنى التحتيّة، فلو إستثمر في هذا الإتجّاه لكان على الأقل لدينا بنى تحتيّة. لكنّ ما حصل بأنّ هذه الأموال أهدرتها الدولة، ومقابل ذلك ليس لدينا إنتاجيّة، بالإضافة إلى أنه ليس لدينا ايرادات صحيحة في موازناتنا فأغلبية المواطنين لا تدفع الضرائب، ناهيك عن موضوع التهريب… كل هذه الأمور ساهمت بإيصالنا إلى ما نحن عليه».
وأمام كل هذه المشكلات، يرى عربيد أنّه من «الضروري وضع موازنات صحيحة ومتوازنة، ووقف التهريب والهدر وتصحيح الجباية وحل مشكلة الكهرباء والذهاب إلى مشاريع إستثماريّة، وإلّا لن يصطلح الوضع المالي والنقدي في لبنان».
إستخدام اصول الدولة
أما عن رأيه بـ»إستخدام أصول الدولة لردّ الودائع»؟، فيُجيب: «أنا من مؤيدي هذا الطرح لكن أنا ضد البيع. الدولة تملك أصولاً وشركات ومؤسسات، إضافةً إلى حقّها بإصدار القوانين وإعطاء الإمتيازات. إذاً هي ليست معدومة الإمكانيّة أيّ ليست مُفلسة. الدولة باقية، فليس هناك من دولة تُفلس بل سوء الإدارة هو الذي يوصلها إلى العجز»، ويشدّد على أنّه «مع إستثمار الأصول لكن ضد بيعها وبخاصّة الأراضي والعقارات، وهو مع الشراكة بين القطاع العامّ والخاصّ».
الشراكة والخصخصة
وهنا يلفت إلى «الفرق بين الشراكة والخصخصة. فالناس تخلط في ما بينهما، فنحن مع الشراكة وليس مع الخصخصة، ولا نوّد بيع لا مؤسسات ولا أصول ولا عقارات بل كل ما نريده هو إستفادة الدولة من هذه الأملاك مع بقائها هي الجسم المراقب. فالمرفق العامّ في لبنان يجب أن يكون مُربحاً على غرار كافّة دول العالم أو على الأقلّ يكون متوازناً، لكن هذا بحاجة إلى تطبيق القوانين الموجودة، مع ثقة ومصداقية بالمُشغل، الى جانب الإستقرار السياسي».
عناوين عريضة وأساسيّة
لكنه يُنبّه إلى أمر هامّ لا يقف فقط عند إنقاذ لبنان، بل يلفت إلى «واجب هامّ وهو «ترميم العلاقة مع كل أصدقاء لبنان، لننهض من جديد. فلا يمكننا مقاطعة أحد لأن «البعد جفا»،على حد تعبيره، ومن مصلحتنا أن تكون علاقاتنا جيدة مع الدول الخليجيّة وكافة الدول الصديقة للبنان عربية كانت أم أوروبيّة، ولكن هذا يتطلب إصلاح الوضع السياسي أولاً وإنتظام العمل المؤسساتي وتنفيذ القوانين والإلتزام بالإصلاح، لإقناع هذه الدول بالعودة إلى لبنان وتنفيذ مشاريع فيه، ومنح هبات وقروض للمساهمة بإعادة إعمار لبنان».
إضافة إلى ذلك يلفت إلى «أهمية معالجة الواقع الإجتماعي، فلا يُمكننا ترك هذا الواقع على ما هو عليه فمستوى الفقر والبطالة والهجرة إلى إزدياد، ويجب بشكل ملح معالجة ملف النزوح، وهذه عناوين عريضة وأساسية يجب معالجتها لقيام لبنان، فإذا فقدنا المجتمع واندثرت الطبقة الوسطى لم يعد ينفعنا أي شيء».