“فرمان” مكتوب: المصارف تعطي أوامرها للسياسيين المطيعين

فعلتها جمعيّة المصارف، وببراعة فائقة، أسقطت النقاش حول مشروع إعادة هيكلة القطاع المصرفي في الحكومة. كانت العمليّة هذه المرّة أسرع –وأنجح- بما لا يُقارن مع عمليّة إسقاطها لخطّة لازارد عام 2020. مسودة مشروع إعادة الهيكلة المطروحة أمام الحكومة، التي أطاح بها اللوبي المصرفي، لم تكن مثاليّة طبعًا، وكانت بحاجة للكثير من التقويم في مجلسي الوزراء والنوّاب، لتلبّي طموح المودعين. غير أنّ هدف جمعيّة المصارف لم يكن مناقشة الخطّة أو تقويمها أصلًا، بل ضربها وضرب أي محاولة لإعادة الهيكلة، للسير بالمشروع البديل: تحويل الودائع إلى ديون على الدولة ومرافقها، أي الإطاحة بالودائع –والإطاحة بالدولة والمجتمع معها- لتنظيف الميزانيّات المصرفية من الخسائر. وعفا الله عن ما مضى.

خلف الأضواء، كان وفد من جمعيّة المصارف يمرّ على القوى السياسيّة والوزراء والنوّاب، ويعمّم “فرماناً” مكتوباً من 14 بندًا، كإملاءات لشكل الحل الذي تطرحه جمعيّة المصارف. وعلى أساس هذه الجولة، وبناءً على تلك الإملاءات، سقط مشروع إعادة الهيكلة، وتم تثبيت البديل المصرفي بالتكافل والتضامن بين المصارف والأحزاب. وفي المقابل، كانت الحملة الإعلاميّة –التي يقودها لوبي المصارف والأحزاب معًا- تتمحور حول شعارات “مسؤوليّة الدولة”، و”قدسيّة الودائع”، التي يُراد منها تمرير المشروع المصرفي البديل (تحويل الودائع إلى دين عام)، وتبرير إسقاط مشروع إعادة الهيكلة الذي يمس برساميل أصحاب المصارف.

هكذا، لبّى جميع السياسيين نداء “الفرمان” المصرفي، تمامًا كما فعلوا مع خطّة لازارد عام 2020، وتبنوا خطاب وحلول المصارف بحرفيّتها في تصريحاتهم، كما وردت في التعليمات المكتوبة. فإليكم هذه الوثيقة التي ستحدد مستقبل الأزمة المصرفيّة، بعد إسقاط مشروع إعادة الهيكلة.

الوثيقة المكتوبة: هذا ما تريده المصارف
بعيدًا عن شعارات قدسيّة الودائع المعلنة، ضد مشروع إعادة الهيكلة، لا يبدو بديل المصارف –كما هو مكتوب في الوثيقة- حريصًا على حقوق المودعين.

في النقطة السابعة من الوثيقة “الفرمان” مثلًا، تتحفّظ المصارف على سداد الودائع بالدولارات النقديّة، بما فيها الودائع التي تم تحويلها بعد 17 تشرين الأوّل 2019. بمعنى أوضح، ما تريده المصارف هنا هو العودة إلى سداد الودائع بالليرة، وبأسعار صرف متعدّدة، وذلك حسب نغمة الودائع المؤهّلة والودائع غير المؤهّلة.

هنا، ينكشف هدف شعار قدسيّة الودائع الذي سوّقته المصارف (الشعار الأجوف والفارغ والانتهازي كما يصفه البنك الدولي عن حق ومعرفة). فالهدف ليس ضمان حقوق المودعين حتمًا، بدليل مطالبة الجمعيّة بعودة الاقتطاعات من قيمة السحوبات. بل المطلوب الحؤول دون فتح الدفاتر لتمييز الودائع حسب مصادرها، ووفقًا لدرجة اتصالها بأرباح المراحل السابقة، ومنها أرباح الهندسات الماليّة مثلاً. المطلوب، أن تتساوى الودائع في أحقيتها، من دون أي اعتبار لمشروعيّتها أو مصدرها، ما يعني تقليص القدرة على سداد الودائع المشروعة.

ولتأكيد ذلك، يمكن العودة إلى البند الـ13 من الوثيقة “الفرمان”، الذي يرفض فكرة تمييز الودائع المشروعة من الودائع غير المشروعة.

هذه الفكرة ستكون “عمليّة معقدة جداً، وقد تكون لها تداعيات سيئة على المدى الطويل”، حسب الجمعيّة. ولا توضح الوثيقة: تداعيات سيئة على من؟ أصحاب الودائع غير المشروعة؟ على من تحرص جمعيّة المصارف؟ وبهذا الشكل، ترفض الجمعيّة هذا الإجراء، بالرغم من قدرته على إلقاء جزء من الخسائر على الودائع غير المشروعة، ما يزيد من الجزء المضمون من الودائع المشروعة.

وبالشكل نفسه، تتحفظ جمعية المصارف في البند 14 على فكرة إعادة فائض الأموال المستلمة من قبل كبار المساهمين وأعضاء مجلس الإدارة والمديرين التنفيذيين، لكونه “ليس من الطبيعي أن يتم الطلب من مساهم إعادة أنصبة الربح”.

لا تشرح الوثيقة طبعًا سبب اعتبار هذا الإجراء “غير طبيعي”، خصوصًا أن المصارف نعمت خلال السنوات التي سبقت الانهيار بأرباح خياليّة، من الهندسات الماليّة التي أجراها مصرف لبنان، وكان ذلك على حساب أموال المودعين. بمعنى آخر، لا يوجد إجراء طبيعي أكثر من استعادة أرباح هذه الهندسات، بل والتحقيق في هذه العمليّة الاحتياليّة! استعادة هذا النوع من الأرباح الاحتياليّة، هو “ألف باء” إدارة الإفلاسات التجاريّة والمصرفيّة.

المصارف ترفض في البند 11 من الوثيقة “الفرمان” تحميل بعض رساميل أصحابها نصيبهم من خسائر القطاع، لأن ذلك سيجعل المساهمين غير مقتنعين “بضخ المزيد من الأموال الخاصّة” في المستقبل. أي أنّ المصارف تريد تطبيق مبدأ “الرساميل المقدّسة”، التي لا يمكن المساس بها. بل وتريد تحميل المودعين –كما رأينا سابقًا- نصيبهم من الخسائر، قبل أن تُمس رساميل أصحابها.

عن أي “قدسيّة ودائع” تتحدّث جمعيّة المصارف إذًا؟ وما هي هذه القدسيّة التي تمر بتحييد الرساميل، ورفض إعادة الأرباح الاحتياليّة، ورفض تمييز الودائع غير المشروعة، مقابل تسديد الودائع بأسعار صرف متدنية!

ما يتضح هنا، هو أنّ ما ترفضه المصارف هو الطريق الأمثل لضمان أكبر قدر من الودائع، أي مسار إعادة الهيكلة وتحميل الخسائر لمن يجب أن يتحمّلها (من مساهمين وودائع غير مشروعة وأرباح احتياليّة وفوائد فاحشة…إلخ.). وما تطلبه جمعيّة المصارف، ومن يحمل شعاراتها من سياسيين، هو النقيض التام لحقوق المودعين.

المصارف جهة سياديّة؟
التعليمات التي أعطتها المصارف للسياسيين، والتي جرى على أساسها إسقاط مشروع إعادة الهيكلة، تطلب في البند الثامن مشاركة القطاع المصرفي في الهيئة المختصة بإعادة الهيكلة، بالإضافة إلى ممثل عن الهيئات الاقتصاديّة (!).

وبهذا الشكل، تطلب المصارف أن تكون وصيًا على نفسها، وأن تساهم بالرقابة على نفسها، وأن تحدد بنفسها إمكانيّة استمرار أي مصرف بالعمل في المستقبل. أو إذا أردنا أن نصيغها بعبارة أخرى: باتت الجمعيّة تعتبر نفسها شريكًا لمصرف لبنان في الوصاية على القطاع، وكأنها جهة ذات سيادة.

إعطاء المصارف حصّتها من “سيادة الدولة” يظهر كذلك في البند الأوّل من الوثيقة، التي تطلب من السياسيين أن تكون المصارف شريكًا في اللجنة التي ستضع خطّة الحكومة للقطاع، إلى جانب مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف. بل وتذهب تعليمات المصارف للسياسيين أبعد من ذلك، باشتراطها إجراء إعادة هيكلة شاملة لمصرف لبنان، على قدم المساواة مع المصارف التجاريّة.

وبطبيعة الحال، من حق المواطن اللبناني أن ينتظر إعادة هيكلة إداريّة في المصرف المركزي، بعد كل ما جرى. لكن هل من المألوف أن تطلب المصارف المفلسة إعادة هيكلة المصرف المركزي كشرط، قبل إعادة هيكلتها؟ وهل ستكون وصيًا على إعادة هيكلة المصرف المركزي أيضًا، كجزء من الوصاية التي تطلبها على القطاع؟

الخداع في شعار “مسؤوليّة الدولة”
أهم أجزاء الوثيقة، التي جرى على أساسها الإطاحة بمشروع إعادة الهيكلة، يرتبط بشعار مسؤوليّة الدولة عن سداد الودائع، وهو الشعار الذي تم تبنيه من قبل الغالبيّة الساحقة من القوى السياسيّة مؤخرًا. وهذه الفكرة، هي مشروع وشعار جمعيّة المصارف منذ العام 2020 بالمناسبة، إذ ولدت الفكرة في دراسة أعدتها الجمعيّة في مواجهة خطة لازارد.

على أي حال، البنود 4 و5 و6 من تعليمات جمعيّة المصارف للسياسيين تتمحور جميعها حول عدم عدالة مشروع إعادة الهيكلة المطروح، وعدم واقعيّته، لأنه لا يحمّل الدولة النصيب الكافي من الخسائر. وللأمانة، تُحسد جمعيّة المصارف على علاقتها بأصحاب القرار في جميع القوى السياسيّة، إذ ردد هؤلاء شعارات “فرمان” المصارف بحرفيّتها ومن دون أي زيادة أو نقصان، طوال الأيّام الماضية. وإذا وجد اللبنانيون غرابة في تطابق مفردات القوى السياسيّة المتخاصمة، فبإمكانهم العودة إلى نص “الفرمان” ليعرفوا السبب، فيبطل العجب.

وبما أنّ الدولة لا تملك أساسًا ما يكفي لزيادة رواتب موظفيها، أو حتّى تشغيل الإدارات العامّة، فالمقصود حتمًا ليس تعويض المودعين اليوم على حساب الدولة، بل تحويل الودائع إلى إلتزامات تتوجّب على الدولة اللبنانيّة. أو بمعنى آخر: أن يصبح المودع، شأنه شأن حملة سندات اليوروبوند، شريكًا في الدين العام الذي ستتم إعادة هيكلته في المستقبل. أو في أفضل الحالات، سيكون المودع شريكًا في صندوق مربوط بإيرادات المرافق العامّة، التي لا توازي قيمتها أكثر من 13% من قيمة الخسائر المتراكمة (والتي لن تُحقق طبعًا أي إيرادات تُذكر في حال تطبيق هذا الحل، الكفيل بتهشيم الدولة والمجتمع والاقتصاد لعقود من الزمن).

ببساطة، لا يوجد ما يفسّر ربط المصارف ما بين “مسؤوليّة الدولة” والقدرة على سداد الودائع. إذاً، المطلوب مجددًا: عدم الدخول في مسار إعادة هيكلة من الأساس، والاكتفاء بعمليّة “نصب” جماعيّة تحوّل حقوق المودعين إلى ديون على الدولة (أو المرافق العامّة). وقراءة بنود الوثيقة، تكفي لمعرفة حجم الخداع الذي مارسه لوبي المصارف، عند ترداد شعارات قدسيّة الودائع طوال الأسبوع الماضي، في وجه مشروع إعادة الهيكلة. كما تكفي قراءة الوثيقة ليعرف اللبنانيون مستقبل الأزمة، بعدما سلم أصحاب القرار في مجلسي الوزراء والنوّاب بإرادة جمعيّة المصارف وإملاءاتها.

ما تطرحه جمعيّة المصارف كحل بديل، هو تمامًا ما تتبناه الأحزاب السياسيّة اليوم في خطابها وممارستها. وتمامًا كما دخلت البلاد مسار السقوط الحر بعد الإطاحة بخطّة لازارد، ستدخل البلاد عقودًا ضائعة، بمجرّد إثقال الدولة والمجتمع بكتلة الخسائر المصرفيّة، التي ستتحوّل إلى ديون عامّة.

وعند تلك المرحلة، لن يكون بالإمكان أن نترقّب تفاهمًا مع صندوق النقد، ولا مع حملة سندات اليوروبوند، ولا مع أي جهة مقرضة خارجيّة. ولن تعود الودائع على أي حال.

ستكون أيامًا مظلمة، يتحمّل مسؤوليّتها كل ما شارك بلعبة جمعيّة المصارف خلال الأيام الماضية.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقة«المركزي الأوروبي» يتوقع عودة «شبح التضخم» العام المقبل
المقالة القادمةملف التنقيب على دفَتَي الحرب والمصالح الدولية؟!