قانون “إعادة التوازن المالي”: نسخة لقيطة في مجلس النوّاب

هذا الأسبوع، بدأت لجنة المال والموازنة بمناقشة مسودّة مشروع قانون إعادة التوازن للانتظام المالي في لبنان، الذي يفترض أن يضع خريطة الطريق لتسديد الودائع بالعملات الأجنبيّة في المصارف اللبنانيّة. ومن المفترض أن يتكامل هذا القانون خلال المرحلة المقبلة مع قانون آخر، يضع القواعد الأساسيّة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي وتحديد المصارف القابلة للاستمرار، إلا أنّ المسودّة الأولى من مشروع القانون هذا لم تبصر النور بعد، لا في الحكومة ولا في المجلس النيابي.

نسخة مرميّة في المجلس

أوّل ما يلفت النظر في مشروع القانون، هو الغموض الذي أحاط بعمليّة صياغته وإرساله إلى المجلس. النسخة الموجودة بيد النوّاب موقّعة من قبل النائبين جورج بوشيكيان وأحمد رستم، لكنّ رستم وبوشيكيان تهرّبا من حضور أولى جلسات لجنة المال والموازنة المخصّصة لمناقشة القانون الحسّاس، كما تملّصا من تقديم أي إجابات مرتبطة بمضمون القانون.

ولذلك، كان أداء بوشيكيان ورستم يوحي بأنهما كانا مجرّد وسطاء “لرمي” مشروع القانون في المجلس، في ظل الفراغ الرئاسي الذي يحول دون تصويت حكومة تصريف الأعمال على مرسوم مشروع قانون مهم كهذا. وعلى هذا الأساس لم يكن هناك منطق في توجيه أي استيضاح إليهما بما يخص ثغرات مشروع القانون.

ممثّل مصرف لبنان أكّد خلال الجلسة أنّه قدّم معطياته وتوصياته للحكومة خلال مرحلة صياغة مشروع القانون، حيث تم الأخذ بهذه الملاحظات في المسودّة الأخيرة منه، وهو ما يرجّح أن يكون فريق العمل الحكومي هو الأب الفعلي للمسودّة المطروحة. لكنّ تغيّب الوزراء أو الاستشاريين الذين عملوا على الملف في الحكومة حال دون تبنّي الحكومة رسميًّا لمشروع القانون، كما حال دون تقديم أي استفسار أو استيضاح بخصوص تفاصيله. مع الإشارة إلى أنّ هناك من لمّح داخل المجلس إلى أنّ ما جرى كان تغييب متعمّد لهؤلاء، عبر عدم توجيه دعوات رسميّة لهم لحضور الجلسة.

باختصار، كانت المسودّة المرميّة في المجلس مجرّد نسخة لقيطة لم تجد من يدافع عنها، أو يشرح محتواها الغامض المليء بالملابسات. وهذا الواقع بالتحديد هو ما يطرح السؤال عن جديّة الطرح الذي تم تقديمه، وعن ما إذا مجرّد خطوة شكليّة لإعطاء الانطباع بوجود تقدّم على مستوى تحقيق شروط التفاهم مع صندوق النقد.

فرضيّات اعتباطيّة: على أي أرقام استند القانون؟

السؤال الأساسي الذي يخطر على بال قارئ مسودّة مشروع القانون يرتبط أولًا بالفرضيّات التي يقوم عليها. فالمادّة الأولى منه تنص على ضرورة “تحديد الوضعيّة الماليّة الفعليّة وحجم الفجوة” في مصرف لبنان، على أساس “تدقيق محاسبي لميزانيّة مصرف لبنان”، وهو ما يعني أن جميع الأرقام الواردة في القانون، بما فيها تلك التي تحدد حجم الودائع التي يمكن ضمانها بشكل واقعي، لم تستند إلى أي أرقام موثوقة أو دقيقة بخصوص حجم الفجوة الموجودة في القطاع المالي في الوقت الراهن.

ثم ينص القانون في مكان آخر (في المادّة الخامسة) على ضرورة قيام المصارف بتزويد لجنة الرقابة على المصارف بالمستندات والمعلومات التي تبيّن ما لديها من “ودائع مؤهّلة” و”ودائع غير مؤهّلة”، ما يشير إلى أنّ صياغة القانون لم تستند حتّى إلى إحصاءات تفصّل حجم “الودائع المؤهّلة” التي سيسعى القانون إلى حمايتها.

بمعنى آخر، لم يعرف من صاغ القانون حجم الفجوة الفعلي، ولا إمكانات القطاع المالي، ولا حجم الأموال التي يستهدف إعادتها، ولا حجم الأموال التي لن يستهدف إعادتها كما هي، ما يجعل كل ما في القانون من ضمانات ووعود مجرّد تنجيم وضرب بالرمل، إلى حين تدقيق ميزانيّة مصرف لبنان والحصول على أرقام المصارف.

أمّا أهم ما في الموضوع، فهو أنّ مسألة تحديد المصارف القابلة أو غير القابلة للاستمرار، تُركت معلّقة ومربوطة بقانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي، الذي لم يبصر النور بعد. وبغياب هذا القانون ومعاييره، والمسار الذي ستفرضه عمليّة إعادة هيكلة القطاع، يصبح كل الحديث عن الودائع المضمونة في المصارف القابلة للاستمرار توقّعات معلّقة بالهواء، بانتظار تبيان عدد ووضعيّة المصارف التي ستتمكّن من البقاء في السوق.

تصنيف الودائع وسدادها

كحال المسودّات المسرّبة السابقة، حافظت هذه المسودّة على التصنيفات نفسها بما يخص الودائع المؤهلة وغير المؤهلة. فالودائع غير المؤهّلة هي تلك التي تم تحويلها من الليرة اللبنانيّة إلى العملات الأجنبيّة بسعر الصرف الرسمي، بعد 17 تشرين الأوّل 2019، فيما تُعد الودائع التي كانت بالدولار منذ ذلك الوقت ودائع مؤهّلة. وفي النتيجة، سيسعى مشروع القانون إلى:

– سداد كل وديعة من الودائع المؤهّلة لغاية 100 ألف دولار أميركي، بالدولار أو بالليرة بحسب سعر المنصّة. الإشكاليّة الأساسيّة هنا، هي أنّ هذه الآليّة تفتح باب الاقتصاص من قيمة الودائع، في حال استمرار الفارق بين سعر صرف المنصّة وسعر السوق الحرّة (تصل نسبة هذا الاقتصاص إلى حدود الربع اليوم). أمّا الإشكاليّة الأخرى، فهي أن القانون يركن إلى منصّة صيرفة كمرجعيّة لسعر الصرف، بغياب أي سند قانوني يشرّع المنصّة أو يحدد آليّات عملها.

– سداد ما يفوق 100 ألف دولار من الودائع المؤهلة بالليرة، إنما بأسعار صرف تقل عن سعر السوق، أو تحويل جزء منها إلى صندوق استرداد الودائع.

– بالنسبة إلى الودائع غير المؤهلة، سيتم تحويلها إلى الليرة مباشرة، وبأسعار تقل عن سعر السوق.

– سيتم استرجاع قيمة الفوائد التي تم سدادها للودائع المؤهلة منذ 2015، والتي تفوق قيمتها 100 ألف دولار.

في كل هذه الخطوات، يحتكم القانون إلى الهيئة المصرفيّة العليا لتكون الجهة الناظمة، التي تدير سقوف السحب وأسعار الصرف وعمليّات سداد الودائع. والإشكاليّة المهمّة هنا، تكمن في أنّ القانون سيسلّم الهيئة هذه المهمّة الحساسة، قبل الشروع في عمليّة إعادة هيكلة المصرف المركزي وصلاحيّات اللجان والحاكميّة والهيئات فيه، كما تنص خطّة التعافي المالي.

مع الإشارة إلى أنّ الهيئة المصرفيّة العليا تخضع اليوم لسيطرة الحاكم وجمعيّة المصارف معًا، إذ يرأس هذه الهيئة الحاكم ويملك صوتاً فيها، فيما تسمّي جمعيّة المصارف أحد أعضائها بشكل مباشر، وعضو آخر بشكل غير مباشر عبر المؤسسة الوطنيّة لضمان الودائع، كما يسمّي المجلس المركزي لمصرف لبنان أحد نوّاب الحاكم ليكون عضوًا. وبذلك، “يمون” الحاكم وجمعيّة المصارف معًا على أربعة من أصل ستّة أصوات في الهيئة.

ثغرات أخرى

جميع تفاصيل مشروع القانون الأخرى تحفل بالثغرات الكفيلة بالطعن بجديّة مشروع الحل المطروح، ومنها:

– تساهم الدولة في إعادة رسملة المصرف المركزي، من خلال مبلغ 2.5 مليار دولار، على أن يتم تأمين المبلغ عبر إصدار سندات دين أو “أي وسيلة أخرى”. وكما هو معلوم، لن تملك الدولة في القريب العاجل القدرة على إصدار أي سندات، قبل إعادة هيكلة دينها القائم أساسًا، كما لا تملك السيولة لإعادة رسملة المصرف على هذا النحو.

– استحدث مشروع القانون مفهوم “الودائع غير المشروعة”، لاستثنائها من هذا المسار، وهي الودائع المشكوك بمصدرها. ورغم إيجابيّة الخطوة، ترك مشروع القانون أمر تتبع هذه الودائع للمصارف نفسها، عبر ملء نماذج التعريف بالعملاء، وهو ما تقوم به المصارف أساسًا منذ عقود! باختصار، كان هذا البند مجرّد حشو لا يقدّم أو يؤخّر في ميزان توزيع الخسائر.

– ينص القانون على استحداث صندوق استرداد الودائع، كما ينص على إلتزام الدولة بسداد مبالغ لهذا الصندوق. إلا أن آليّة السداد وشروطها ظلّت غامضة وضبابيّة، فيما يتناقض هذا البند مع وعود خطّة التعافي التي نصّت على عدم استخدام المال العام لإطفاء الخسائر المصرفيّة. ومن الأكيد أن بقاء هذا البند على هذا النحو سيكون كفيلًا بعرقلة دخول لبنان في برنامج صندوق النقد الدولي.

– لم يكن من الممكن فهم الآليّة المحاسبيّة لعمل صندوق استرداد الودائع، وكيفيّة نقل إلتزامات المصارف للمودعين واكتتاباتها في مصرف لبنان إلى الصندوق. وثمّة ما يشير إلى أن صياغة مشروع القانون لم تستند إلى فهم واضح وعلمي لهذه الآليّة أصلًا.

– ينص مشروع القانون على إصدار صندوق استرداد الودائع سندات أو أوراق ماليّة لمصلحة المودعين، ما يهدد بتحويل الودائع إلى دين عام يُضاف إلى الدين العام المتعثّر أساسًا.

في خلاصة الأمر، لا يوجد ما يشير إلى أنّ إطار الحل الذي يقدمه مشروع القانون يملك أدنى مقوّمات الجديّة أو الواقعيّة، ولا يوجد ما يشير إلى النقاشات فيه ستفضي قريبًا إلى صياغة المسار الموعود لتسديد الودائع. فعلى ما يبدو، لا يندرج مشروع القانون إلا ضمن سياسة ملء الوقت الضائع، واستعراض بعض الخطوات المتفرّقة والشكليّة التي لا تنتج حلولاً حقيقيّة لاحقًا، تمامًا كما حصل في ملف الكابيتال كونترول. وهذه التطوّرات، تتكامل مع المشهد السياسي والمالي الأوسع، الذي أحال خطّة التعافي بأسرها إلى الموت السريري، وحيّد تفاهم لبنان مع صندوق النقد إلى أجل غير مسمّى.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةالحكومة وخطتها المدمّرة لشطب أموال المودعين: الحديث عن اعادة ما هو تحت المئة الف للتضليل!
المقالة القادمةالمصارف اللبنانية متوقفة عن الدفع وليست مفلسة: الأولوية للمودعين