يدخل «قانون الشراء العام» حيّز التنفيذ اليوم، معلناً بداية مرحلةٍ جديدة لنظام الشراء والصفقات العمومية يُؤمل أن تكون أقلّ فساداً. على أهمية الخطوة، إلا أن قوى السلطة حصرت هدفها برضى المجتمع الدولي وإظهار التزامها بإقرار قوانين إصلاحية ولو أتت ناقصة وترافق تطبيقها مع إشكاليات عدّة. فشرّعت قانوناً تتعارض بعض مواده ومواد قانونية نافذة، كما لا تراعي ظروف كل الجهات المُلزَمة تطبيق أحكامهِ وإمكاناتها، كالمجالس البلدية التي ستكون أمام خيارين: إما القبول بالشلل التام الذي سيطاولها أو خرق القانون لتسيير شؤون الناس
بعد عامٍ على إقراره في الهيئة العامة لمجلس النواب، يُعلَن اليوم في حفلٍ رسمي في السرايا الحكومية بدء تطبيق قانون الشراء العام الذي وضع آليّة مركزيّة موحّدة للإنفاق العام، بحيث تخضع كل الصفقات العمومية والمشتريات لإشراف هيئة متخصّصة ولرقابتها، تسمى هيئة الشراء العام ولجنة اعتراضات. في السابق، كانت إدارة المناقصات التابعة لهيئة التفتيش المركزي تشرف فقط على 5% من الصفقات العمومية المعقودة لمصلحة إدارات الدولة ووزاراتها. وتقدّر وزارة المالية حجم هذه الصفقات بـ 13% من الموازنة العامة و4% من الناتج المحلّي الإجمالي، من دون أن تتضمّن حجم مشتريات المؤسسات العامة والأجهزة الأمنية والعسكرية، أي الجيش وقوى الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة، والبلديات والمشاريع المموّلة من الخارج.
أهمية القانون أنه وسّع مروحة الصفقات التي تخضع لرقابة هيئة الشراء العام لتشمل جميع عمليات الشراء التي تقوم بها الدولة ومؤسساتها ومجالسها وصناديقها وإداراتها والهيئات الإدارية المستقلة والبلديات واتحاداتها والمحاكم التي تتمتع بموازنات خاصة، والأسلاك الأمنية والعسكرية وما يتبع لها ومن وحدات، ومشتريات المرافق العامة المشغّلة من قبل شركات خاصة لمصلحة الدولة، وصولاً إلى عمليات الشراء التي يجريها مصرف لبنان باستثناء طباعة النقد وإصداره. بمعنى أوضح، إخضاع كل إدارات الدولة ومؤسساتها، من دون استثناء، لرقابة هيئة الشراء العام، لإنهاء مرحلة الصفقات المشبوهة والتفلّت والحدّ من الفوضى والفساد، انطلاقاً من كون الهدر في إنفاق المال العام يتم بشكلٍ رئيسي عن طريق المشتريات العمومية. وهو ما يعلمه أهل الداخل والخارج. لهذا السبب شكّل القانون مطلباً دولياً منذ انعقاد مؤتمر «سيدر» في نيسان 2018، ولا سيما من قبل الفرنسيين، شأنه شأن الكثير من القوانين الإصلاحية، وخصوصاً أن من إيجابياته إنهاء مرحلة اتفاقيات التراضي كيفما أراد مجلس الوزراء بناءً على اقتراح الوزير المختص.
استجابةً للضغوط الدولية، وطمعاً بالمساعدات الخارجية التي ربطتها الدول والجهات المانحة بتنفيذ الخطوات الإصلاحية، وكذلك تسهيلاً لعقد اتفاقٍ مع صندوق النقد الدولي، أنجز مجلس النواب القانون، وأقرّه في 29 تموز من العام الماضي. لا يعني ذلك أن القانون ليس حاجة وطنية ملحّة، إلا أن إعداده وفق هذه الذهنية حصراً يجعل تطبيقه أمراً ليس بالسهل. ففيما يُطلق القانون غداً، لا تزال الجهتان الموكلتان تطبيقه غير مشكّلتين، أي هيئة الشراء العام ولجنة الاعتراضات. ولأن همّ السلطة تحقيق إنجاز بإقرار القانون ليس إلّا، وتالياً منع أي سبب يؤخّر إطلاقه، أجاز المشرّع في المادة 88 من القانون حصر مهام هيئة الشراء بشخص رئيسها إلى حين تشكيلها. وبما أن المدير العام لإدارة المناقصات (جان العلية حالياً)، يتحوّل بحكم القانون إلى رئيس هيئة الشراء العام، فهو من سيتولى مهمة الهيئة ككل راهناً. كما أتاح المشرّع لمجلس شورى الدولة الاستمرار في النظر في نزاعات ما قبل التعاقد إلى أن يصار تعيين هيئة الاعتراض.
هذه المخارج التطبيقية المرحلية التي ليس معلوماً بعد مدى صوابيتها وتأثيرها على تطبيق القانون، غير متوافرة في حالات إشكالية جوهرية، كمعضلة تطبيق المجالس البلدية للقانون. إذ تفرض أحكام «الشراء العام» على البلديات تشكيل لجنتَي تلزيم واستلام، تتألف كل منهما من ثلاثة أعضاء شرط أن يكونوا من موظفي الفئة الثالثة. فيما غابَ عن بال المشرّع ندرة الموظفين من الفئة الثالثة في المجالس البلدية عامة، فالبلديات الكبرى قد تضمّ موظفاً وحيداً من تلك الفئة، أما بلديات القرى فينعدم وجودهم فيها. وطالما أن القانون لا يجيز أي مشتريات من خارج هذه الآلية، فإن ذلك يعني حكماً شلّ أعمال البلديات من أصغر مهمة صيانة أو رش مبيدات أو تنظيف مجاري الصرف الصحي إلى أكبر مشروع قد تتولاه. هذا الأمر شكّل موضوع اعتراض من قبل عددٍ كبير من رؤساء البلديات واتحاداتها، مطالبين إما بتعديل القانون أو باستثناء البلديات منه ريثما يتم تعديل النقاط الإشكالية، وفي هذا الصدد يلوّح بعض رؤساء البلديات، كرئيس بلدية الغبيري معن الخليل، بأنه «أمام حاجة المواطنين وضرورات السلامة العامة»، قد يخالف القانون إذا لزم الأمر للحفاظ على المناطق الواقعة ضمن نطاق مسؤولياته البلدية. بمعنى الاستمرار في تشكيل لجان شراء وعروض في البلديات نفسها كما جرت العادة.
عندما درست اللجان النيابية قانون الشراء العام، كان يجري التحضير بالتوازي لاقتراح قانون يعدّل بعض أحكام قانون البلديات، منعاً للتعارض بين القانونين. لكن، واقعاً، أهملت السلطة تعديل قانون البلديات وأقرّت الشراء العام بمعزل عنه، ما خلق تعارضاً على البلديات التعامل معه. فعلى سبيل المثال، كان يحق لرئيس البلدية المصادقة على الصرف ضمن حد أقصى قيمته 50 مليون ليرة، وما يفوق ذلك يحتاج إلى موافقة المحافظ، أما اليوم فيتيح له قانون الشراء العام المصادقة على مصاريف تصل قيمتها إلى 100 مليون ليرة. وهنا يسأل رؤساء البلديات عن أي مواد قانونية يجب عليهم الالتزام بها. كما أن ديوان المحاسبة، وفق قانون البلديات، يعدّ من الجهات الرقابية على عمل المجالس البلدية، فيما ألغى القانون الجديد دوره من دون تعديل المواد القانونية التي لا تزال سارية المفعول، كما هي الحال بالنسبة إلى طريقة الإعلان عن المناقصات، ففي السابق كان لزاماً النشر في الجريدة الرسمية، أما راهناً فُيكتفى بالاستعانة بالمنصة الإلكترونية الخاصة بهيئة الشراء العام.
من جهته، يتوقّف جان العلية، بصفته رئيس هيئة الشراء العام، عند معوّقات تطبيق القانون على الصعيد البلدي، وتحديداً في الشق المتعلّق بالعنصر البشري، واعداً بالتعاون في حلّ الأمور التطبيقية العالقة. ويتحدّث عن إمكانية حل مسألة موظفي الفئة الثالثة من خلال التشريع، إذا ما أرادت السلطة تسيير الأمور، وذلك عبر تقديم نائبٍ واحد اقتراح قانون معجّلاً مكرراً لتأخير تطبيق قانون الشراء العام في البلديات لمدة سنة. لكنه يؤكّد، في المقابل، أن هيئة الشراء العام ملزمة البدء غداً بتطبيق القانون على كل الجهات الشارية المشمولة بأحكامه بما فيها البلديات، لافتاً إلى وجود فريق عملٍ قانوني برئاسته يدرس كيفية التطبيق من ضمن الواقع القائم، وما هي الأمور التي يمكن التساهل فيها من دون خرق النص القانوني، ليكون ذلك بمثابة مخرجٍ بعيد عن المسار القانوني ستتّضح معالمه خلال الأيام القليلة المقبلة.