يخال لمَن ينظر إلينا نقرأ في الموازنة أننا ندرس الجداول ونفنّد أرقامها، ونبيّن قدرتها على المعادلة بين المداخيل والمصاريف، ونتفحّص مدى احترامها الأصول الدستوريّة وخصوصاً المادتين 80 و 81 من الفقرة (ب) في الباب الرابع من الدستور اللبناني، ونرصد احترامها للأصول الواردة في قانون المحاسبة العموميّة الصادر بالمرسوم رقم 14969، ونكشف مطابقتها للمبادئ الواردة في القرار رقم 1/559 – تاريخ 28/2/1966.
إنها عمليّة تدخل في صلب العمل التشريعي المنوط بالمجلس النيابيّ، الذي يتعرّج أمامه الخطّ الفاصل بين السلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة بفعل الانبثاق الكامل لهذه الأخيرة عنه.
إنّ الأرقام أساس ينبني عليه الكون، لكنها تشكّل أيضاً النتيجة التي يصل إليها انكباب الدماغ على معالجة العمليّات الحسابيّة. وإذا كانت الأرقام، وفق هذه المعادلة، تشكّل نقطةَ ارتكاز فذلكات الموازنة ونتيجةً لعمليّاتها الحسابيّة، فهي لا تستطيع العبور من الفرضيّة إلى النتيجة بطرق ملتوية، تخرج عن قواعد الاستدلال الرياضيّ. وعليه، لا يستقيم مشروع الموازنة إذا اكتفى بطرح نقطة الانطلاق (التقشّف وعصر النفقات) وعرض النتيجة (تقليص العجز)، إنما عليه أن يعتمد معالجةً صحيحةً للوصول إلى نتيجة صحيحة.
إذا كانت النتيجة تتمثّل بما ورد في المادة الرابعة عشر، تحت عنوان «قانون برنامج لتشييد أبنية للإدارات العامّة في سبيل استغناء الدولة وإداراتها الرسميّة عن أعباء وأكلاف استئجار المباني والانشاءات التي تشغلها …»، فإنّ محو المبالغ المرصدة لهذا المشروع، كما جاء في الفقرة الخامسة التي تنصّ على برنامج لأبنية الجامعة اللبنانيّة (وهي برامج أقرّها القانون رقم 286 تاريخ 12/2/1994 والقانون رقم 79 تاريخ 18/4/2018)، إنما ينطوي على تناقض يضرب الهدف الأساس. لأنّ استغناء الدولة عن أعباء الإيجارات وتكاليفها لن يتمّ إلّا إذا أدرك الحاكمون أنّ الاستثمار في هذه المشاريع هو استثمار طويل الأجل، يبدأ اليوم ليتحقّق غداً. فالغد لناظره قريب، والقطاف للزارع أكيد.
في الفصل الثالث، يستعرض المشروع التعديلات الضريبيّة، التي امتدّت على مختلف القطاعات، على الرغم من الزعم أنها لن تشتمل على ضرائب جديدة. ولم يقتصر هذا الاستعراض على إجراءاتٍ تُعدِّل تدبيراً هنا أو آليّةً هناك، بل امتدّت إلى بعض القوانين الخاصّة، التي يُغيّر التعديلُ فيها بنيةَ أحكام هذه القوانين، كاستحداث ضريبة على المعاش التقاعديّ (التي استثناها المرسوم الاشتراعي رقم 144 الصادر في 12/6/1959 وتعديلاته، ولا سيما النقطة الرابعة من المادة 47 التي تنصّ صراحة على أنّ معاشات التقاعد تُمنح وفقاً لقوانين التقاعد وأنظمته). وهو أمر لا يجوز على حدِّ ما جاء في قرار المجلس الدستوري رقم 2018/2 تاريخ 14/5/2018 الذي ينصّ صراحة على أنه «لا يجوز أن تُدَسّ النصوص التي تعدّل قانوناً سبق إقراره في قانون الموازنة العامة… فقانون الموازنة يختلف عن القوانين العاديّة ولا يجوز بالتالي أن تعدّل هذه القوانين من ضمنه، لأنّ في ذلك خروجاً عن أصول التشريع». وإذا كان لا بدّ من تعديل نظام التقاعد، المحكوم بالمرسوم الاشتراعي رقم 47 وتعديلاته، باعتبار التمييز الاجتماعي الذي ينطوي عليه، والخلل الذي يعتري بعض أحكامه، فينبغي الانكباب على إعداد مشروع يطوّر هذا النظام لما فيه خير الإنسان المتقاعد والمجتمع.
وإن سلّمنا جدلًا أنّ هذه التعديلات، على ما هي عليه في حالتها القانونيّة الشاذّة، تُصاغ، على ذمّة الراوي، في سبيل إرساء مزيد من العدالة الاجتماعيّة، فإنّ التمعّن في فذلكاتها يشير إلى أنها لا تخالف أصول التشريع فحسب، بل تخالف أحكام الدستور، الذي ينصّ في الفقرة (ج) من مقدّمته على أنّ «لبنان جمهوريّة ديمقراطيّة برلمانيّة تقوم … على العدالة الاجتماعيّة». والعدالة لا تتحقّق بحصر الضريبة، التي يُزمَعُ فرضُها على المعاش التقاعديّ، بالشطرين الأوّلين، أي بالجزء الأساسيّ من المعاش، بل بفرضها على ما يُعرف بالمعاشات التقاعديّة الذهبيّة. كما أنّ العدالة لا تتحقّق بفرض معدّل الضريبة نفسه (10 %) على فوائد الحسابات الدائنة الصغيرة، التي ادّخرها صغار المودعين لوقت الحاجة إليها، وعلى فوائد حسابات مَن كَثُر مالُه وثَريَ. إنما تتحقّق فعلاً باعتماد الضريبة التصاعديّة.
ويسقط مفهوم العدالة الاجتماعيّة في الفصل الرابع من مشروع الموازنة، لثلاثة أسباب جوهريّة تُبرز التناقضَ الذي ينطوي عليه هذا المشروع، والارتجالَ الذي تُتّخذ به القرارات، والارتباكَ الذي يُصاب به المؤتَمنون على الشأن العام. فوقف التوظيف في الإدارات والمؤسّسات العامّة يعني أوّلاً تكبيلَ الإدارة في واقعها الراهن، وتجميدَها في مستواها الحاليّ، وتحنيطَها في شكلها المترهّل؛ ويعني ثانياً إقفالَ الأبواب أمام الطاقات الشابّة، وإغلاقَ النوافذ أمام المهارات الجديدة، وكبحَ الآمال عند المتخرّجين الطامحين إلى المساهمة في بناء دولتهم؛ ويعني ثالثاً تكريسَ مفهوم الطبقيّة إذ يقتصر هذا القرار على الطبقات الكادحة، وترسيخ مبدأ الزبائنيّة السياسيّة إذ تنحصر حالات التوظيف الضروريّة بمجلس الوزراء، وتثبيت القاعدة البيروقراطيّة باعتماد التسلسل الإداري الذي لا ينتهي إلّا بقرار مجلس الوزراء.
لا يستلزم الكلامُ على هذه الأسباب، التي تُسقِط العدالة الاجتماعيّة من حسابات مشروع الموازنة، استفاضةً في الشرح. فالتكبيل، والتجميد، والتحنيط، وإقفال الأبواب، وإغلاق النوافذ، وكبح الآمال، وتكريس مفهوم الطبقيّة، وترسيخ مبدأ الزبائنيّة، وتثبيت القاعدة البيروقراطيّة، عبارات كفيلة بقول ما يستعجب العقلُ منه، وما تشمَئِزّ الأذنُ من سماعه، وما يُرتَج عليه الكلام. فهذه التعابير تطال البنيةَ الاجتماعيّة، التي يشكّل القطاع العام، من رأس الهرم حتى أسفله، جزءاً لا يتجزّأ منها. وإن كان التضخّم يصيب هذا القطاع، فإنّه يصيبه أوّلاً في الحكومات الفضفاضة التي يفوق عددُ أعضائها ضعفَ ما هو عليه في الحكومات التي تتولّى إدارة بلدان تتجاوز مساحتُها وعددُ سكّانها أضعاف مساحة لبنان وعدد سكّانه. وهي سلطات تتكوّن بناءً على مشروع انتخابيّ تشكّل فرصُ العمل أهمّ مقوّماته.
نحن لا نخالف الحاكمين في أنّ التوازن بين القطاعين الخاص والعام قد اختلّ لمصلحة القطاع العام، لكننا لا نتوافق معهم في الأسلوب الذي يعتمدونه لتصحيح هذا الاعتلال. لأنه أسلوب يخالف الدستور، وينحرف عن أصول المحاسبة العموميّة، ويخلّ بالعقد الاجتماعي المُبرَم بين مكوّنات المجتمع. ولا يتوافق ربّما إلّا مع توجيهات مَن كلّف الدولةَ أموالاً ليُملي عليها ما لا نراه في المجتمع الذي ينتمي إليه. أما الأسلوب الذي نراه مناسباً فيتمثّل أوّلاً باحترام العقد الاجتماعي الذي لا يقبل أيّ تعديل إلّا بموافقة الأطراف المعنيّة بالعقد؛ والمتمثّل ثانياً بتحديدٍ دقيقٍ لمكامن الخلل، وعدم التعميم ودسّ جملة واحدة في مشروع الموازنة، كفيل بتكريس الخلل وتعميقه؛ والمتمثّل ثالثاً بالإيجابيّة التي لا تواجه الأزمة بالمنع والحظر والتحريم، بل بالتصويب والتحفيز والتنشيط.