كيف نتفادى تشتت الانتباه في بيئات العمل الحديثة؟

ربما يكون ضرر الرسائل المتواصلة التي تبقينا على اتصال دائم بمحادثات العمل أكثر من نفعها. إذ نشعر دائما بأنه يتعين علينا الرد على الرسائل حتى لا نعطل العمل. لكن متابعة سير العمل لحظة بلحظة والتنقل المتواصل بين المهام يعوقنا عن التركيز والتفكير العميق، وهذه المشكلة أصبحت تضر الشركات التي تسعى لتحقيق الاستفادة القصوى من موظفيها.

ويرى كال نيوبورت، أستاذ علوم الحاسب الآلي بجامعة جورج تاون، بولاية واشنطن ومؤلف كتاب “ترشيد استخدام الأجهزة الرقمية”، أن بيئات العمل يجب أن تتغير تغيرا جذريا لتعالج مشكلة المشتتات أثناء العمل. ويقول إن قيمة الموظف في الشركة لن تقاس مستقبلا بمهارته، بل ستقاس بقدرته على التركيز. لكن كيف نجد الوقت للابتعاد عن المشتتات وتحسين أدائنا في العمل؟

يقول نيوبورت إن الوظائف في قطاع المعرفة، الذي يعتمد على الذكاء البشري وليس الآلات، تتطلب من الموظف مطالعة الرسائل باستمرار لمتابعة سير العمل والاستعداد الدائم لتولي مهام متعددة في آن واحد، وهذا يتعارض بالطبع مع التركيز والتفكير العميق والخلّاق والثاقب الذي سيفيد الشركة.

وغني عن القول أن أدمغتنا تجد صعوبة في التركيز في أكثر من مهمة واحدة في نفس الوقت. وفي الماضي كان علماء النفس يظنون أن الأشخاص الذين ينخرطون في مهام متعددة في آن واحد يمتلكون قدرة خارقة على التحكم الانتباهي.

إلا أن الأدلة تثبت أن متعددي المهام لا يتمتعون بموهبة استثنائية، بل أشارت دراسات إلى أن الأشخاص الذين يؤدون مهمتين أو أكثر في آن واحد، مثل مشاهدة التلفاز ومطالعة البريد الإلكتروني، يرتكبون أخطاء أكثر من غيرهم ممن يركزون على مهمة واحدة.

وهذا يرجع إلى أن أدمغتنا لا تستوعب إلا عدد محدود من المعلومات في لحظة معينة، وقد يؤدي الالتزام بتأدية مهام عديدة في يوم العمل والتنقل الدائم بين المهام إلى إهدار الوقت بدلا من توفيره واستغلاله.

ويقول نيوبورت إن ترقب رسائل العمل طوال اليوم وتوقع الرد عليها في الحال، يجعل حياتنا بائسة، لأن هذه اليقظة الدائمة تؤثر على الدوائر العصبية التي تتحكم في السلوكيات الاجتماعية في الدماغ، فتجعلنا نشعر دائما بالقلق ووخز الضمير لأن شخصا ما ينتظر الرد منا.

ويرى نيوبورت أن تكليف الموظف بالمهام عبر البريد الإلكتروني وتطبيقات الرسائل، مثل تطبيق “سلاك” أدى إلى زيادة المهام التي يطالب الموظف بإنجازها. إذ أصبح العامل في قطاع المعرفة مكلفا بأداء مهام أكثر من أي وقت مضى، ومن ثم يسابق الزمن لتنفيذها في الوقت المحدد. وقد يكون من الأفضل أن تدرس الشركات تخفيف الأعباء عن الموظفين بدلا من زيادتها.

صراع من أجل التركيز

لن يؤدي تحويل الانتباه والتنقل الدائم بين المهام إلا إلى الإنهاك المهني، ويصف نيوبورت هذا النموذج من تدفق العمل بأنه “التفكير الجماعي المفرط القائم على الرسائل المتواصلة المشتتة للانتباه”. إذ أصبح يومنا مزدحما بمحادثات عشوائية عبر تطبيقات المحادثة ومواعيد نضيفها سريعا دون أن ننتبه إلى جدولنا اليومي.

وسيتناول نيوبورت في كتابه القادم “العالم دون بريد إلكتروني” أهمية السماح للموظفين بإنجاز العمل على أفضل وجه دون مشتتات.

ويرى نيوبورت أن تخفيف أعباء العمل عن كاهل العمال سيؤدي إلى تحسين الأداء، ويوصي بأهمية الاستغناء عن المحادثات التي لا طائل منها ما دام العمل في المؤسسة يسمح بتقليل التواصل بين العاملين.

ويقول نيوبورت: “يهدر المديرون 85 في المئة من يوم العمل في اجتماعات أو في مكالمات هاتفية أو في التحدث مع الأخرين عن العمل دون أن يؤدوا العمل، وهذا يتعارض مع الطريقة التي يعمل بها الدماغ. فإن التحول الدائم من مهمة لأخرى ومن سياق لآخر ينهك القوى ويؤدي إلى الإصابة بالاحتراق النفسي”.

وينبه نيوبورت إلى أن بعض الناس يلجؤون لحيل للتخفيف من ضغط العمل، مثل التوقف عن استخدام البريد الإلكتروني أيام الجمعة. لكنه يقول إن التوقف تماما ليوم أو أكثر عن استخدام البريد الإلكتروني أو تطبيق سلاك للمحادثة الجماعية، لن يجدي نفعا ما لم توجد وسيلة بديلة للتواصل بين الموظفين في الشركة.

ويقترح نيوبورت التواصل وجها لوجه مع الموظفين بدلا من التحدث عبر تطبيقات المحادثة أو البريد الإلكتروني، وتشجيع الموظفين على التواصل بوضوح مع بعضهم بعضا.

وأجريت دراسة في عام 2009، حول تأثير تحويل الانتباه من مهمة لأخرى على الأداء، وخلصت إلى أنه ينبغي التوقف عن التفكير في المهمة الأولى قبل الانتقال إلى المهمة الثانية من أجل تنفيذها على أكمل وجه. لكن هذا لن يتحقق في حالة مطالعة رسائل البريد الإلكتروني باستمرار لتذكيرك بالمهام السابقة.

والمشكلة أنه كلما كثرت مشاغلنا زادت فرص التنقل بين المهام، ومن ثم عدم القدرة على التركيز. وتشير التقديرات إلى أن استعادة التركيز بعد تشتت انتباهنا يستغرق ما يصل في المتوسط إلى 23 دقيقة و13 ثانية.

يرى نيوبورت أن قطاع هندسة البرمجيات هو أكثر قطاعات المعرفة تركيزا على المنتج. وعلى غرار الطريقة التي تعمل بها أدمغتنا، يعكف مهندسو البرمجيات لمدة ثلاثة أيام على مشروع واحد فقط ولا يركزون في هذه الفترة على شيء سوى المنتج، ويضعون خطة منظمة لتقسيم العمل بين الموظفين.

وهذا الوقت الذي يخصصه المهندسون للمشروع يساعدهم في إيجاد أفضل الحلول لتحقيق الكفاءة الإنتاجية. وفي الماضي، كان العمال المهرة يصنعون المنتجات من الألف إلى الياء، ولم تظهر خطوط الإنتاج، التي ساعدت كل عامل في التركيز على المهمة التي يتقنها قبل نقلها للعامل التالي في السلسلة، إلا في القرن العشرين.

ولعل نموذج خطوط الإنتاج يناسب بعض القطاعات دون غيرها، مثل هندسة البرمجيات. لكن من الممكن أيضا تحسين الكفاءة الإنتاجية في قطاعات أخرى، شريطة أن تجمع فريقا يضم العاملين الضروريين فقط للتركيز على إنجاز مشروع واحد دون تشتيت في ضوء أهداف واضحة.

وفي الوقت الحالي، يقول نيوبورت إنه لم يجد حتى الآن أي شركة كبرى تعمل وفقا لتصوره لضمان سلاسة سير العمل. ويرى أن الشركات التي تقدر التفكير البطيء والمعمق والثاقب ستتفوق مستقبلا على الشركات التي تشجع موظفيها على أداء مهام عديدة في آن واحد.

بواسطةويليام بارك
مصدربي بي سي العربية
المادة السابقةاختيار لندن كأفضل مدينة في العالم لإقامة الطلاب ودبي الأفضل عربيا
المقالة القادمةالاتحاد الأوروبي يختار الاقتصادية البلغارية كريستالينا جورجيفا مرشحة له لإدارة صندوق النقد الدولي