لأول مرة بالتاريخ: هجرة المدن وعودة اللبنانيين إلى الأرياف

تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أنّ نسبة المقيمين في لبنان الذين باتوا تحت خط الفقر تجاوزت حدود 74%، أي ما يقارب الثلاثة أرباع المقيمين. وهذه النسبة ناتجة بشكل أساسي عن التضخّم القاسي الذي سببه انهيار سعر صرف الليرة، وارتفاع معدلات البطالة بسبب إقفال المؤسسات وموجات الصرف الجماعي. باختصار، لم تعد أجور ورواتب المقيمين كافية لتأمين أبسط مقوّمات الحياة وفقاً لأسعار السوق الحاليّة المرتفعة، وحسب القيمة الفعليّة لمداخيل المقيمين.

في المقابل، تشير تقديرات الأمم المتحدة نفسها إلى أنّ الأسر التي تقيم في المدينة في لبنان تتكبّد كلفة معيشة تزيد بنحو 30% عن الأسر التي تقيم بالأرياف، وهي كلفة ناتجة عن ارتفاع أسعار إيجار المسكن والغذاء والمياه وغيرها من الاحتياجات الأساسيّة اليوميّة في المدينة. ولهذا السبب بالتحديد، أصبح النزوح المعاكس نحو الريف أحد الطرق التي تلجأ إليها الأسر اللبنانيّة لتخفيض كلفة معيشتها، والتمكّن من الصمود في ظل الظروف الحاليّة. مع الإشارة إلى أن امتلاك الكثير من الأسر أراضي ومساكن لم تتخلّ عنها بعد في الأرياف سهّل النزوح المعاكس هذا.

بالأرقام، تشير إحصاءات “الدوليّة للمعلومات” إلى أنّ سكّان الأرياف يمثّلون اليوم نحو ربع المقيمين في لبنان. ومن بين هؤلاء، هناك نسبة تتراوح بين 5 و7% من الذين كانوا يقيمون في المدن سابقاً، قبل أن تدفعهم الضائقة الاقتصاديّة إلى العودة إلى الريف والالتحاق بالحياة القرويّة. وبذلك، يتبيّن أن عدد الذين قاموا خلال السنتين الماضيتين بنزوح معاكس، من المدينة إلى القرية، يتجاوز حدود 77 ألف لبناني، وهي ظاهرة يشهدها لبنان للمرّة الأولى في تاريخه.

من الناحية العمليّة، تشير دراسة نشرها مؤخراً موقع “بلوم إنفست” إلى أن كلفة الحياة في المدينة لأسرة من أربع أشخاص باتت تتراوح بين 10 و12 مليون ليرة لبنانيّة على أساس شهري، إذا أرادت الأسرة تأمين الحد الأدنى من احتياجات المسكن والغذاء والطبابة والمياه والكهرباء وغيرها. ولهذا السبب بالتحديد، باتت ثلث الأسر التي كانت تصنّف في عداد الطبقة الوسطى غير قادرة على تأمين مقومات الحياة اليوميّة في المدينة، لعدم امتلاكها هذا المبلغ كدخل شهري، وخصوصاً بغياب أي تصحيح شامل للأجور والراتب بعد التراجع الذي شهدته القيمة الشرائيّة للمداخيل.

النتيجة الطبيعيّة لهذه التطورات، كانت لجوء نسبة كبيرة من أسر الطبقة الوسطى بالتحديد إلى مساكنها العائليّة في القرى، وخصوصاً بالنسبة للأسر التي تتحدّر من أصول ريفيّة. وموجة النزوح هذه سهّلتها جملة من العوامل، كرواج العمل عن بعد مع أزمة كورونا وسهولة العمل من الريف، ووجود شبكات حماية أهليّة وعائليّة غير رسميّة، تسهّل اندماج هذه الأسر في المجتمعات الريفيّة وأشطتها الاقتصاديّة، بالإضافة إلى امتلاك هذه الأسر مساكن تاريخيّة في مسقط رأسها، وهي مساكن كانت تستعملها للاصطياف في الماضي. وبوجود الروابط العائليّة التاريخيّة في المناطق الريفيّة، كانت موجة النزوح المعاكس باتجاه الريف أسهل من موجة النزوح السابقة من الريف إلى المدينة.

كما يشير تقرير بلوم إنفست إلى أن انفجار مرفأ بيروت ساهم بدوره في تفريغ المدينة من نسبة وازنة من المقيمين فيها، نتيجة تضرر نسبة كبيرة من المساكن المحيطة بمكان الانفجار، وارتفاع كلفة إصلاح هذه المساكن قياساً بأجور ورواتب الأسر المقيمة فيها. وهكذا، كانت القرى المحيطة بالمدينة ملجأ بالنسبة إلى شريحة واسعة من الأسر التي أقامت سابقاً في الأحياء المحيطة بالمرفأ، كبديل عن مسكنها الأساسي في العاصمة.

أرقام رخص البناء تعكس بوضوح ظاهرة النزوح المعاكس باتجاه الريف اللبناني، في مقابل ضمور النسيج الاجتماعي المُدني. فحسب أرقام نقابتي المهندسين في بيروت وطرابلس، يتبيّن أن عدد رخص البناء التي تم منحها في محافظة الجنوب ارتفع إلى حدود 2590 رخصة لغاية شهر تموز من هذا العام، مقارنة بـ1178 رخصة فقط في الفترة المماثلة من العام الماضي. كما ارتفع عدد هذه الرخص إلى 1616 رخصة في النبطيّة، مقارنة بـ716 رخصة في الفترة نفسها من السنة الماضية. وعلى هذا النحو، ارتفع لغاية شهر تموز من هذه السنة عدد الرخص الممنوحة في محافظة البقاع بنسبة 110% مقارنة بالعام الماضي، وبنسبة 85% في جبل لبنان.

أما في مدينة بيروت، فالأرقام تظهر مساراً معاكساً تماماً، إذ انخفض عدد رخص البناء الممنوحة إلى 149 رخصة فقط لغاية شهر تموز من هذه السنة، مقارنة بـ186 رخصة في الفترة المماثلة من السنة الماضية. وبذلك، يصبح من الواضح أن ازدهار نشاط البناء في الأرياف والقرى ترجم عملياً الارتفاع في عدد سكان هذه المناطق، إثر موجات النزوح الأخيرة باتجاهها.

 

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةالصفيحة بمليونيّ ليرة: زيت الزيتون للمغتربين و”البرجوازيين”
المقالة القادمةإلى وزير الاقتصاد: «ثَبِّتْ إجْرَك قبل ما تثبّت الدولار!»