أصدرت «كلّنا إرادة» موقفاً من مشروع القانون المعجل الرامي الى تعديل بعض المواد المتعلقة بالسرية المصرفية، مؤكدة أنه لطالما عبّرت عن ضرورة رفع السرّية المصرفيّة التي لم تعد صالحة لعصرنا الراهن، خصوصاً أنّ رفعها يُعدُّ شرطاً رئيسيّاً للانخراط في نهجٍ تجديديّ في إدارة الماليّة العامّة وإعادة هيكلتها.
واعتبرت «كلّنا ارادة» النسخة الأخيرة من مشروع قانون تعديل السرّية المصرفيّة الصادرة عن مجلس الوزراء في نيسان /أبريل الماضي، النسخة الأكثر جدّية بين كلّ التعديلات التي أُقِرّت في مجلس الوزراء، إذ لم تكتفِ برفع السرّيّة عن العاملين في الشأن العام في جرائم تبييض الأموال والفساد والإثراء غير المشروع، بل طاولت القطاع الخاصّ في إطار مكافحة التهرّب الضريبي، وجميع أصحاب الحسابات بما يتصل بديونهم تجاه الغير، وكذلك وسّعت الجهات التي يحقّ لها طلب رفع السرّية المصرفية، وعزّزت فرص تقيّد لبنان بالتزاماته الدوليّة والامتثال لقوانين تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
وترى «كلّنا إرادة» أنه يجب إيلاء إقرار القانون أولويّة قصوى، نظراً لأهميّته في عملية الإصلاح المالي. على الرّغم من تبنّي حكومة الرئيس نجيب ميقاتي مشروع القانون، ربّما كنوعٍ من تقديم أوراق اعتماد لدى صندوق النقد الدولي، إلّا أنّه ما من توجّهٍ ملموسٍ من القوى السياسية لإقراره حتّى اللحظة.
إستعراض تاريخي
واستعرضت «كلنا ارادة» قانون السرية في لبنان بالاشارة إلى أن لبنان أقرّ السرّية المصرفيّة منذ العام 1956، والتي ألزمت المصارف والعاملين فيها بعدم الكشف عن أي معلومات تتعلّق بالمودعين لديها ربطاً بقيمة حساباتهم، سواء لجهات خاصّة أو السلطات العامّة، الإداريّة أو المالية أو القضائيّة، إلّا في حال أذِن العميل أو ورثته بذلك، أو في حال أشهر إفلاسه، أو في حال طلبت السلطات القضائيّة رفع السرّية للنظر في دعوى تتعلّق بجريمة الإثراء غير المشروع وتبييض الأموال، أو طلبت هيئة التحقيق الخاصّة رفعها تطبيقاً للاتفاقات والقوانين المُتعلّقة بمكافحة الفساد.
كان الهدف من إقرار هذا القانون جذب التدفّقات الماليّة إلى لبنان في خمسينيّات وستينيّات القرن الماضي، وهي الفترة التي ترافقت مع فورة النفط في الدول الخليجيّة، وعمليّات التأميم في البلدان العربيّة المُحيطة ولا سيّما مصر وسوريا. وبالنتيجة شهد القطاع المصرفي المحلّي تدفّقات هائلة نحوه، فيما أمّن القانون الحماية لهذه الودائع والثروات من السلطات الضريبيّة في بلادها وفي لبنان.
مفاعيل عكسية
لا يزال القانون سارياً في لبنان حتّى اليوم، وفي مقابل نجاحه بجذب الرساميل، كان من مفاعيله العكسية أن تسبّب في إضعاف المواطنيّة الضريبيّة وتعزيز ثقافة الفساد والإفلات من العقاب، إذ شجّع على التهرّب الضريبي وترسيخ انعدام المساواة في توزيع الدخل والثروة، وكذلك نسف التحقيقات في العديد من القضايا والجرائم الماليّة أبرزها قضية سونطراك وقضية رياض ورجا سلامة، وأخيراً التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان والمصارف، وأيضاً سمح في تهريب أموال النافذين إلى الخارج منذ ما قبل انهيار النظام الاقتصادي في تشرين الأوّل 2019.
مع ذلك، ومن الناحية العمليّة، يُعتبر لبنان من الدول التي رفعت السرّية المصرفيّة عن غير المقيمين تجاه دولهم منذ العام 2017 (ولا سيّما رعايا الولايات المتّحدة والاتحاد الأوروبي)، وذلك بعد إقرار سلسلة قوانين تدعم جهود مكافحة تبييض الأموال. في حين بقيت هذه السرّية قائمة تجاه المقيمين لأغراض مُحدّدة وهي التهرّب الضريبي وتأمين الحماية للنافذين من جميع أنواع الجرائم والجنح والجنايات.
4 أسباب
وعن أسباب اعادة النظر بالسرية المصرفية تقول «كلّنا إرادة» ما يلي:
1 – يُعدُّ إصلاح السرّية المصرفيّة بما يتوافق مع المعايير الدوليّة إحدى أولويات صندوق النقد الدولي من أجل التوصّل إلى اتفاق على برنامج معه، كما أنّه أحد الإجراءات المُسبقة المُفترض أن يطبّقها لبنان قبل إرسال الاتفاقيّة المُبرمة على مستوى الموظّفين إلى مجلس إدارة الصندوق.
2 – هذا الإصلاح ضروري لمحاربة التهرّب الضريبي والاقتصاد اللانظامي والفساد والجرائم الماليّة الأخرى، فضلاً عن توسيع قاعدة المكلفين وتحفيز إيرادات الخزينة وتنويعها وتحسين العدالة الضريبية وتأمين التمويل لخدمات اجتماعية ضروية. وكذلك ضمان تقيّد لبنان بالالتزامات الدوليّة والامتثال لقوانين تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
3 – هو ضروري من أجل الوصول إلى المعلومات المصرفيّة، وبالتالي إجراء التدقيق بحسابات مصرف لبنان والمؤسّسات العامّة والمصارف التجارية والمؤسّسات الماليّة، وبالتالي التمكّن من تمييز الودائع المشروعة وغير المشروعة بما يسمح بتوزيع المسؤوليّات والأعباء الناتجة عن الانهيار الاقتصادي، ومراقبة تنفيذ القيود والضوابط على حركة الرساميل، وتحديد المودعين المُفترض حمايتهم عند تصفية المصارف، فضلاً عن أنّه عنصر مهمّ في استراتيجيّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي.
ما الذي يقترحه مشروع القانون؟
تنصّ التعديلات المُقترحة على:
• حظر فتح حسابات ودائع مُرقّمة أو تأجير خزائن حديديّة مُرقّمة، أي التي لا تُعرف هوية أصحابها إلّا من قبل المدير القائم على إدارة المصرف أو وكيله، مع تحويل كلّ الحسابات والخزائن المُرقّمة إلى حسابات وخزائن عادية تطبّق عليها جميع متطلّبات مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب في مهلة 6 أشهر بعد سريان مفعول القانون.
• إجازة إلقاء الحجز على الأموال والموجودات بقرار صادر عن هيئة التحقيق الخاصّة وفقاً لقانون تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، أو بقرار صادر عن سلطة قضائيّة مُتخصّصة أو سلطة أخرى تُناط بها هذه الصلاحيّة، ما يضع حدّاً لتحصين الحسابات المصرفيّة إزاء أي حجز من قبل أي شخص دائن أو صاحب صلاحيّة.
• عدم تطبيق السرّية المصرفيّة على السلطات الضريبيّة بعد الآن، ما سوف يمكّنها من التدقيق وتعزيز الامتثال وكشف التهرّب الضريبي والعمليّات الصوريّة ولا سيّما بين أشخاص مترابطين.
• الاعتراف بصلاحيّة القضاء برفع السرّية المصرفيّة من دون تعطيل المحاسبة من قبل هيئة التحقيق الخاصّة، عبر إلزام المصارف بتقديم المعلومات المطلوبة فور تلقيها طلباً من السلطات القضائيّة في دعاوى التحقيق في جرائم الفساد والجرائم الماليّة واستغلال النفوذ.
• إعطاء جهات جديدة صلاحيّة الولوج إلى المعلومات المحمية بالسرّية المصرفيّة- بالإضافة إلى هيئة التحقيق الخاصّة التي استمدّت هذه الصلاحيّة من قانون تبييض الأموال- وهي: الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد، لجنة الرقابة على المصارف، المؤسّسة الوطنيّة لضمان الودائع، مصرف لبنان، السلطات الضريبيّة.
ملاحظات إضافية من الجمعية اللبنانية لحقوق المكلفين
تؤكد الجمعية اللبنانية لحقوق المكلفين أن مشروع قانون تعديل السرّية المصرفيّة المُقترح يُعدُّ بمثابة خطوة تقدّمية ومهمّة ويجب إقراره، غير أنّه ممكن تطويره عبر السعي لمعالجة بعض الثغرات القانونيّة التي قد تحدّ من آثاره وتخفّف من أبعاده الإصلاحيّة.
وتقول الجمعية إنّ إلغاء السرّية المصرفيّة تجاه السلطات الضريبيّة هو شرط أساسي لتوسيع القاعدة الضريبيّة واستعادة العدالة الضريبيّة، لكن ينقصه:
4 نواقص
1 – تعديل قانون الإجراءات الضريبيّة (المادة 23) الذي يمنح مدير الواردات صلاحيّة إصدار قرارات تحدّد أسس ومعايير وآليّة الوصول إلى المعلومات المحميّة بالسرّية المصرفيّة، ونطاق الإفصاح عنها والضمانات اللازمة، وهو ما يفتح الباب للاستنسابيّة ويضرب مبدأ التدرّج الهرمي للقواعد القانونيّة. وبالتالي حصر هذه الصلاحيّة بمجلس الوزراء بموجب مرسوم يصدر بناء على توصيات وزير المالية.
2 – تعديل قانون ضريبة الدخل (المادة 103) التي تمنع المصارف من إعطاء أي معلومات للمراقبين الضريبيين، واستكماله بإصلاح ضريبي شامل وتطوير الإدارة الضريبيّة.
3 – تعديل قانون الأسواق الماليّة (المادة 55) التي تفرض على كلّ شخص ينتمي، أو كان ينتمي،إلى هيئة الأسواق المالية أو أي شركة أو هيئة استثمار جماعي من الأسواق الماليّة أن يكتم المعلومات والوقائع التي اطلع عليها بحكم وظيفته، باستثناء الطلبات الصادرة عن مجلس هيئة الأسواق الماليّة، ووحدة الرقابة على الأسواق الماليّة، ولجنة العقوبات، والمحكمة الخاصّة بالأسواق الماليّة، بالإضافة إلى الطلبات الصادرة عن القضاء الجزائي والموجّهة عبر رئيس المجلس.
4 – تعديل قانون النقد والتسليف (المادة 151) التي تلزم كل شخص ينتمي، أو كان ينتمي، إلى المصرف المركزي، بأي صفة كانت أن يكتمَ جميع المعلومات والوقائع التي تتعلقّ بزبائن المصرف المركزي والمصارف والمؤسّسات الماليّة، وبهذه المؤسّسات نفسها، والتي يكون اطلع عليها بحكم انتمائه إلى المصرف المركزي.
ثقة دافعي الضرائب
وتضيف الجمعية أنه من أجل استعادة ثقة دافعي الضرائب في الإدارة، من المهمّ أن يضمن مشروع القانون «الممارسات الجيّدة» المُعتمدة من مجموعة EGMONT- وهي منتدى لوحدات الاستخبارات المالیّة- التي انضم إليها لبنان في العام 2003، أو المنتدى العالمي للشفافيّة وتبادل المعلومات للأغراض الضريبيّة التابع لمنظّمة التعاون الإقتصادي والتنمية، وتحديداً على مستوى مراجعة النظراء (المستوى 3).
يبقى النص ملتبساً
وعلى الرغم من الاعتراف بصلاحيّة القضاء، إلّا أن النصّ يبقى مُلتبساً لجهة السلطات القضائيّة المخوّلة طلب المعلومات، إذ يعطي النيابات العامّة صلاحيّة تجاوز السرّية المصرفية، في حين ينتقص من استقلاليّة قضاة التحقيق الذين لا يمكنهم طلب المعلومات إلّا بموافقة الهيئة الاتهاميّة المكوّنة من ثلاثة قضاة وبعد إعلام النيابة العامّة التي بإمكانها الطعن في هذا القرار، بينما يجرّد قضاة الحكم من أي صلاحيّة في هذا الخصوص.
بعض المخاوف
وتبرز بعض المخاوف التي قد تحدّ من إمكانيّة تجاوز السرّية المصرفيّة، إذ تشترط التعديلات أن تهدف المعلومات المطلوبة إلى تسهيل التحقيق في الجرائم الماليّة، وألّا يشتمل نطاق الإفصاح المطلوب على معلومات خارجة عن ضرورات التحقيق. وهو ما قد يؤدّي إلى التحجّج في أحقّية القضاء بالمطالبة بالمعلومات المحميّة بموجب السرّية المصرفيّة، وبالتالي استمرار عرقلة التحقيقات في الجرائم الماليّة.
وطالت التعديلات العقوبات المفروضة على من يخالف أحكام القانون وحدّدتها بغرامة تراوح بين 50 و150 مليون ليرة يعود تقديرها للمحكمة بحسب شدّة المخالفة، وهو ما يجعل العقوبة غير رادعة نظراً لضآلتها بالمقارنة مع حجم وأهمّية وخطورة القضايا التي تستفيد من السرّية المصرفيّة.