لهذه الأسباب لا يطبع مصرف لبنان الليرة؟

 

مع كل المشاكل المالية التي تواجه الدوّلة اللبنانية وتراجع الوضع الإقتصادي في لبنان، يحق للمواطن السؤال عن الأسباب التي تمنع مصرف لبنان من طبع الليرة اللبنانية، وبالتالي تسديد ديون الدولة اللبنانية وتغطية الإنفاق العام وتحسين الخدمات العامّة، ولِمَ لا توزيع الأموال على الشعب اللبناني؟

بلغ عجز موازنة الدولة في العام 2018 ستة مليارات ونصف المليار دولار أميركي، ما يمنع الدولة من تحسين مستوى الخدمات العامة التي تُعتبر الأسوأ في العالم، كما ودعم الإقتصاد من خلال إستثمارات في الماكينة الاقتصادية، إضافة إلى دعم قروض الإسكان ومحو الفقر، وغيرها من الأمور التي ينتظرها المواطن من دولته.

والمعروف، أنّه ومنذ وقف العمل باتفاقيات «بريتون وودز» في أوائل السبعينيات، أصبحت الدول حرّة في طبع عملاتها كما تشاء. إذًا، لماذا لا تقوم الدولة اللبنانية بطباعة العملة وتمويل كل ما سبق ذكره؟

قبل الردّ على هذا السؤال الأساسي يتوجّب معرفة أنّ الماكينة الاقتصادية المؤلّفة من الشركات والأُسر حصرًا (بحكم أنّ دور الدوّلة، رقابي، تنظيمي، تشريعي، إضافة إلى إعادة توزيع الثروات) هي الوحيدة التي تخلق الثروات. وبالتالي، وبحسب النظرية الاقتصادية، فالعملة تعكس ثروة البلد. إذًا، البلد الذي يتمتّع بإقتصاد قوي تُصبح ثروته أكبر وتُترجم هذه الثروة بزيادة أوراق عملته.

طبع العمّلة هو عمل سيادي يُمكن لأي دولة أن تقوم به. لكن هناك معوقات إقتصادية تمنع ذلك، كما سنظهره في ما يلي عبر الفصل بين حالتين:

أولًا – حالة الاقتصاد المُغلق: في هذه الحالة طبع العملة لا يُغيّر أي شيء في المُعادلة، خصوصًا إذا ما بقيت القدرة الإنتاجية على حالها، حيث ستُترجم الزيادة في أوراق العملة ارتفاعاً في الأسعار، ما يؤدّي حكمًا إلى تضخّم في الاقتصاد. والآلية التي يتحوّل فيها طبع العملة إلى تضخمّ بسيطة، وتنصّ على أنّه في ظل معروض ثابت، طبع العملة يؤدّي إلى المنافسة على هذا المعروض من قِبَل المُستهلكين مما يرفع الأسعار عملًا بمبدأ العرض والطلب.

ثانيًا – حالة الاقتصاد المفتوح على الخارج: في هذه الحالة طبع العمّلة له مفعول سلبي أكبر من حالة الاقتصاد المُغلق. وبفرضية أنّ الدوّلة طبعت العملة في ظل معروض ثابت، فإنّ الطلب على البضائع المُستوردة سينقل الأموال من الاقتصاد المحلّي إلى الاقتصادات الخارجية. ولأن التداول عادة هو بعملة الدولار الأميركي، لذا ستتمّ زيادة الطلب على الدولار الأميركي على حساب العملة الوطنية، وهذا الأمر سيُضعف العملة الوطنية ويجعل سعرها أقلّ مقابل الدولار وبالتالي سترتفع الأسعار حكمًا.

إذًا، ومما تقدّم نرى أنّه في كلا الحالتين لا يُمكن طبع العملة بشكل عشوائي مهما كانت الأسباب، بل توجد حالة واحدة يُمكن فيها طبع العملة وهي الحالة هي التي ينمو فيها الإقتصاد، حيث يتمّ طبع عملة بقيمة النموّ الاقتصادي.

التجارب العالمية في هذا المجال عديدة ويُذكر منها حالة ألمانيا، زمبابوي، وفنزويلا. ففي ألمانيا وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، كانت الدولة مُلزمة دفع أكثر من 30 مليار دولار أميركي للحلفاء. لذا قامت بطباعة المارك بكمّيات هائلة، ما أدّى إلى رفع التضخّم إلى تريليون بالمئة! وأصبحت الأسعار تزداد كل ربع ساعة وذلك أدّى إلى تضخمّ جامح قضى على كل مكونات الإنتاج وانهار الإقتصاد الألماني. كذلك الحال في زيمبابوي، ففي العام 2008 قام الرئيس روبرت موغابي بالطلب من حاكم المصرف المركزي بطبع الدولار الزيمبابوي لتغطية نفقات الدولة. هذا الأمر رفع التضخّم إلى أكثر من 70 مليار بالمئة في أقل من سنة، توقفت على إثره الحكومة عن طبع العملة بحكم أنّ ورق الطبع أصبح يفوق قيمة العملة نفسها. لكن الوقت كان متأخرًا، حيث انهار اقتصاد الزمبابوي بشكل كامل. أمّا المثال الحديث فهو المثال الفنزويلي، حيث قام الرئيس الفنزويلي وكنتيجة للعقوبات الأميركية بإعطاء الأمر بطبع العملة، ما أدّى إلى تضخمّ كبير. وما زالت الأسعار ترتفع حتى الساعة مع توقّعات أن تبلغ نسبة التضخّم 10 ملايين بالمئة خلال هذا العام.

ماذا لو طلبت الحكومة اللبنانية من حاكم مصرف لبنان طبع العملة؟ بالطبع سيرفض رياض سلامة هذا الأمر مُتسلّحًا بقانون النقد والتسليف الذي يضمن استقلالية المصرف المركزي عن سياسة الحكومة. ولكن بفرضية أنّه قبل طبع الليرة اللبنانية، ما هو السيناريو المُتوقّع؟ الجواب بكل بساطة ستتكرّر تجربة ألمانيا وزمبابوي وفنزويلا وسينهار الإقتصاد اللبناني.

وماذا إذا ما تمّ استخدام هذه العملة في استثمارات كما يُطالب فيه العديد من الخبراء الإقتصاديين؟ الجواب أيضًا سينهار الاقتصاد. والسبب يعود إلى عدّة عوامل نذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر:

أولًا – الماكينة الإنتاجية اللبنانية هي ماكينة ضعيفة، وكل استثمار جديد أو تحديث للموجود، يتطلّب شراء مُعدّات أو مواد أوّلية من الخارج. وبالتالي سيتمّ تحويل الليرة اللبنانية بكّم هائل إلى الدولار الأميركي، ما يعني إنهيار الليرة اللبنانية ومعها الإقتصاد اللبناني.

ثانيًا – لأنّ لبنان بلد مفتوح إقتصاديًا على الخارج، لا ضمانة على الإطلاق ألا يتمّ شراء السلع والبضائع والخدمات الأجنبية على حساب نظيراتها اللبنانية، إلّا إذا أقفلنا الحدود وحوّلنا لبنان إلى بلد ذي إقتصاد مُغلق. في هذه الحالة نقع في حالة الاقتصاد المُغلق مع طبع العملة ومعروض ثابت وبالتالي ينهار الإقتصاد.

ثالثًا – مع طبع العملة سيفقد القطاع المصرفي اللبناني الثقة العالمية فيه وبالتالي سنشهد سحوبات كبيرة للودائع ومعها تحويلاً تلقائياً للأموال من الليرة اللبنانية إلى الدولار الأميركي. ما يعني إنهيار العملة ومعها الإقتصاد.

رابعًا – مع طبع العملة، سيكون من المُستحيل على الدوّلة اللبنانية الإقتراض في الأسواق العالمية، حيث سيتمّ فرض فوائد خيالية من قِبل السوق تفوق المئة بالمئة (هذا إذا قَبل أحد شراء هذه السندات) وبالتالي سنشهد إفلاساً للدولة اللبنانية ومعها الإقتصاد.

إذًا، وكنتيجة لما سبق، نرى أنّ سياسة الثبات النقدي التي يتّبعها مصرف لبنان هي سياسة حكيمة، لأنّها تضمن عدم انهيار الإقتصاد. ولكل من يُطالب بضخّ الأموال في الأسواق، يجب معرفة أنّ ضخ الليرة اللبنانية في الأسواق في ظل الوضع السياسي والمالي القائم هو ضرب جنون سيؤدّي إلى انهيارها ومعها الإقتصاد اللبناني. لأنّه لا يوجد مُستثمرون مُستعدّون للإستثمار في الإقتصاد في ظل أجواء سياسية ملبّدة كالأجواء السائدة حاليًا.

بواسطةبروقسور جاسم عجاقة
مصدرجريدة الجمهورية
المادة السابقةديون الضمان على الدولة تجاوزت الخط الأحمر
المقالة القادمةقبرص توقع عقداً لاستخراج الغاز بقيمة 9 مليارات دولار