في الوقت الذي تتوجّه فيه الأنظار اليوم الثلاثاء لحدثَين إثنين، الأول مرتبط بالاعتصام الذي دعا إليه الضباط المتقاعدون احتجاجاً على المسّ برواتبهم التقاعدية، والثاني مباشرة الحكومة بدراسة الموازنة العامة، يحبس المواطنون وموظفو القطاع العام من صغار الرواتب أنفاسهم لما يُسرّب عن اقتطاع نسبة من رواتبهم المتواضعة.
فلا نفي الجهات المعنية أراح القلوب، ولا التأكيدات بأن لا زيادة ضريبية يتحمّل أعباءها المواطن طمأنت النفوس، من منطلق “من جرّب مجرّب كان عقله مخرّب”، وعلى خلفية التجارب السابقة التي أفضت في كلّ مرّة كان الحديث فيها عن تخفيض نفقات وعصر موازنة، واستحداث أبواب جديدة لإيرادات الخزينة إلا وأتت من جيوب الفقراء وما تبقّى من طبقة متوسطة، تتمسّك بآخر رمق كي لا تنحدر إلى مستوى الطبقة الفقيرة.
وإذا كان المكشوف اليوم ممّا تخبئه الموازنة من “كأس مرّة” سيدفع ثمنه إثنان: القطاع المصرفي ومعه صغار المودعين ( لكون ودائع كبار المودعين محفوظة بالأمن والأمان في الخارج) لجهة ما يتردّد عن رفع نسبة الفوائد من 7 إلى 10 بالمئة، والموظفون والمتقاعدون من قطاعات وظيفية عديدة. وفي هذا الإطار يُقرّ عدد من الخبراء الماليين لموقع ” ليبانون فايلز” بأن الحكومة الحالية كما سابقاتها، تختار الطريق الأصعب لمواجهة أزماتها المالية، لضخّ الأموال في موازناتها العتيدة.
ويتّفق الخبراء الماليون على أن الفساد المالي في حال مواجهته بصرامة، ومن دون التعرّض لفلس المواطن العادي، من شأنه أن يُعيد تصحيح مالية الدولة وموازنتها المنهوبة بطرق شرعية.
وإذا كانت أبواب توفير الأموال كثيرة من دون تعريض المكلّف اللبناني لأعباء إضافية تزيد من تفاقم الوضع الاقتصادي سوءاً، تكتفي تلك المراجع المالية بلفت نظر الدولة وللمرّة الألف إلى أمرين إثنين، الأول متعلّق بمكافحة التهرب الضريبي والثاني الأملاك البحرية.
وفي هذا الإطار، تُشير تلك المراجع إلى إن “كلفة التهرب الضريبي يبلغ 5 مليارات دولار سنوياً، أي ما يوازي الـ 10 بالمائة من الناتج المحلي”، وبأن من يدفع الضريبة بالكامل “لا تتعدّى نسبته الـ 40 بالمئة من الشركات والمؤسسات والأفراد، حيث يحتلّ الموظفون المرتبة الأولى ممن تُقتطع ضريبة الدخل من رواتبهم، والقطاع المصرفي الذي يصرّح عن أرباحه ويسدّد ضرائبه كاملة للدولة”.
وفيما تلفت المراجع المالية إلى أن القطاع المصرفي “يوفّر لخزينة الدولة 50 بالمئة من ماليّتها، مجملها من ضريبة دخله”، تؤكد بالمقابل أن ” 60 في المئة إما يسدّدون الضرائب جزئياً، أو لا يدفعون شيئاً”، ومعتبراً أن هذه الفئة “تشكّل النسبة الأكبر في التهّرب الضريبي”.
ووفق تلك المراجع، فإن التهرّب الضريبي لشركات وأفراد يأخذ أشكالاً عديدة ، منها “التّهرب من دفع ضريبة الدخل لجهة عدم التصريح بها، والتلاعب بالإيرادات والإنفاق، والتهرّب من دفع الرسوم الجمركية عبر المرفأ، والتهرّب من دفع فواتير ورسوم لمؤسسات عامّة تُقدّم الخدمات والمُعاملات الإدارية، وعدم التخمين الصحيح للعقارات”.
وترى تلك المراجع أنه وفق عملية حسابية علمية “يتبيّن أن التّهرب من تسديد ضريبة الدخلّ يحرم خزينة الدولة سنوياً ملياراً و650 مليون دولار أميركي، فيما التهرّب الجمركي يبلغ ملياراً و380 مليون دولار أميركي، والتهرّب من الـ TVA ملياراً و350 مليون دولار، أما التهرّب من دفع فواتير ورسوم للمؤسسات العامّة فيكبّد الخزينة خسارة 370 مليون دولار والتخمين العقاري 220 مليون دولار”.
وبذلك، تعلّق المراجع” يخسر لبنان سنوياً ما يوازي الـ 4 مليار و960 مليون دولار أميركي، وكل ذلك بسبب غياب الملاحقة القانونية ، وتطبيق عقوبات بحقّ المتهرّبين والمتخلّفين عن تسديد المتوجّب عليهم من ضرائب على أنواعها”.
وفيما ترى المراجع أن الحديث عن الأملاك البحرية وما يُمكن أن توفّره للخزينة من أموال “يطول وعلى قاعدة حدّث ولا حرج، لكونها لوحدها كافية في سدّ العجز بنسبة كبيرة”، شدّدت على وجوب أن “لا تُّحمل الموازنة المرتقبة المصارف ما لا تستطيعه ، خصوصاً وأن مساهمة القطاع في الاقتصاد اللبناني تبلغ 9 بالمئة من الناتج المحلي”.
وتخلص المراجع إلى ضرورة “استفاقة ولو متأخّرة للحكومة والدولة لتطبيق عادل للسياسة الضريبية، تُلزم الكبار قبل الصغار تسديد ضرائبهم، وضبط صارم لكل ما من شأنه أن يشكّل تسرّباً للتهرّب الضريبي، عندها، تُصحّح الدولة ماليتها تدريجياً، بعيداً عن جيوب الملتزمين بضرائبها”.