على مدى 23 عاما قبضت شركة “ليبان بوست” على البريد اللبناني، محققة إيرادات للدولة اللبنانية بـ1.5 مليار ليرة لبنانية فقط. في الوقت الذي كانت تحقق فيه المديريّة العامة للبريد -حسب ديوان المحاسبة- 7 أضعاف المبلغ وأكثر من الذي حققته “ليبان بوست”، فوصل حجم إيرادات المديرية إلى 7.8 مليار ليرة عام 1997، أي في سنة واحدة فقط ، قبل خصخصة القطاع!
شركة “ليبان بوست” هي شركة خاصة مسؤولة عن تشغيل قطاع البريد في لبنان، استلمت هذه المهمّة سنة 1998 بعد أن كانت المديرية العامة للبريد تنقل البريد للإدارات مجاناً.
تمّ التجديد لـ”ليبان بوست” عدّة مرّات من دون أي مطالبة من وزراء الاتصالات بتحسين شروط العقد لصالح الدولة اللبنانية. فمدد العقد أوّل مرة في عام 2000، ثمّ في عهد الوزير بطرس حرب لثلاث سنوات (عام 2015)، وفي عهد الوزير محمد شقير لثمانية أشهر (عام 2019، على الرغم من محاولة شقير التمديد للشركة 12 سنة)، وفي عهد حكومة الرئيس حسّان دياب حتى انتهاء العام 2020، وفي العام 2021 مدّد للشركة بالتوافق بين رئيس الجمهوريّة السابق ميشال عون ودياب حتّى نهاية 2021، وفي 2022 مدّدت حكومة ميقاتي العقد حتى نهاية 2023 مع طلب إصدار دفتر شروط جديد.
تعديلات فاضحة
مرّ العقد بمراحل عدّة وشهد العديد من التعديلات التي وصفها ديوان المحاسبة بالفاضحة. فبعد أن تمّ الطلب من مجلس الإنماء والإعمار عام 1995 بخصخصة قطاع البريد في لبنان، كانت مدّة العقد 12 سنة، ليصبح 15 سنة قابلة للتمديد 3 سنوات (في عام 2000 بعد دخول ميقاتي إلى الشركة) من دون رفع حصّة الدولة، بل بالعكس، فقد تراجعت هذه الأخيرة.
كانت الدولة، وحسب العقد، تستحصل على 5% من أرباح شركة” ليبان بوست” إذا وصلت إلى 14.7 مليون دولار، لتعدّل نسبة الأرباح فتصبح 5% على أرباح تتخطى 20 مليون دولار. في المقابل قدّمت الدولة للشركة مكاتب مجانية وأعطت للمؤسسة الحقّ بتقديم خدمات غير بريديّة، على أن لا يكون للدولة اللبنانيّة أيّ حصّة منها، فيما كانت الدولة اللبنانيّة تدفع للشركة أيضاً كلفة نقل البريد الداخلي للإدارات العامّة.
أمّا ذريعة التمديد للشركة فجاءت تحت إطار “ضيق الوقت” الذي لا يسمح للدولة باجراء المزايدة! وكانت الشركة في هذه الفترة تحقق أرباحاً طائلة بالشروط “المجحفة” نفسها بحق الدولة. إذ يقول تقرير ديوان المحاسبة، الذي أعدّ من قبل القاضي عبد الرضا ناصر، إنّ “الشركة حرمت خزينة الدولة مبالغ ماليّة كبيرة وألحقت ضرراً فادحاً بالأموال العموميّة”.
وكانت الشركة تملكها “كندا بوست”، لتتمّ عمليّة نقل للأسهم من “كندا بوست” إلى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، في عام 2000، وبقي ميقاتي يملك الأسهم حتى عام 2019، إلى أن عاد ومنح الملكيّة إلى “مجموعة سرادار” وعدد من المساهمين، حسب بيانات السجل العقاريّ.
وعن حجم الفروقات بين إيرادات الدولة حين كانت المديريّة العامّة للبريد مستلمة هذا القطاع وبين إيرادات الدولة حين استلمت شركة “ليبان بوست”، نجد أنه في عامي 1997 و1998 حقّقت الدولة واردات بقيمة 12 مليار ليرة، فيما منذ العام 2001 وحتى العام 2019 لم تتجاوز الواردات المودعة في الخزينة من قبل “ليبان بوست” 5 مليارات ليرة (وفق الحسبة الدفتريّة لديوان المحاسبة).
وفي الفترة الممتدة بين 2001 و2019 لم تسدد شركة “ليبان بوست” معظم بدلات إيجار المكاتب اللبنانية للدولة، والتي بلغت أكثر من 18 مليار ليرة لبنانيّة، بل كانت تستخدم ما يقارب 30 مكتباً مجاناً. وللمفارقة لا تزال الدولة اللبنانيّة تدفع رواتب موظفي البريد، والذين يكلّفونها أكثر من 6 مليار ليرة لبنانيّة. ومع ذلك قاضت الشركةُ الدولةَ اللبنانية وطالبتها بتعويضات ومصاريف بقيمة 15 مليار ليرة، كبدل الكلفة التي لم تدفعها الدولة للشركة لنقل البريد الداخلي. إلا أن ديوان المحاسبة أصدر تقريره الذي يؤكّد فيه أنّ الدولة هي التي لديها أموال لدى “ليبان بوست” وليس العكس.
غطاء لبراءة الذمّة
واعتبر بعض المطّلعين على ملفّ “ليبان بوست” أنّ الجلسة الوزارية التي دعا إليها ميقاتي في 6 كانون الأول 2023 أخذت مرضى السرطان ومرضى غسيل الكلى “غطاء” لتمرير مخالصة، لإصدار براءة ذمّة بين “ليبان بوست” والدولة اللبنانيّة، يسمح من خلالها لـ”ليبان بوست” بالمشاركة في المناقصة التي كان منوي عقدها في 24 كانون الثاني. فمن دون براءة الذمة لا يمكن لـ”ليبان بوست” المشاركة فيها. وعليه “دفعت ليبانون بوست” حوالى 40 ألف دولار نتيجة المخالصة. هذا وعلى الرغم من إعطاء براءة الذمّة لـ”ليبان بوست” إلاّ أن ّجردة حساب الدولة للشركة لم تنته، وتبقت آخر 3 سنوات بعد العام 2019 عالقة، والتي كانت فيها الشركة مستمرة بعملها وتجني الأرباح. علما أنها قد دفعت مبلغ 1.5 مليار دولار للدولة، ولكن على سعر صرف 1500 ليرة.
لم تتقدّم أي شركة للمزايدة!
وكان قد أعلن وزير الاتصالات جوني قرم بتاريخ 16 شباط 2023 أنّ “ليبان بوست” ستستمر بتسيير قطاع البريد حتى 31 أيار 2023، بعد أن فشلت جلسة مزايدة الخدمات والمنتجات البريدية في إتمام المزايدة لتلزيم قطاع البريد لشركة غير “ليبان بوست”، على الرغم من قيام 4 شركات بشراء دفتر الشروط والتقدّم بأمر الدفع وفقاً للأصول. وهذه الشركات هي: شركة ميريت إنفست، وشركة ليبان بوست، وشركة غانا بوست، وشركة ايكون. فيما كشف مدير عام البريد محمد يوسف في مؤتمر سابق، أنه وعند الساعة 9:27 دقيقة تقدّمت إحدى الشركات ولكنّ الوقت كان متأخراً، واعتذرت الوزراة عن استقبال العرض. وبما أنّ لا سلطة تشريعية أو قانونية أو قضائية للوزارة بأن تلزم من يشتري دفتر الشروط بالمشاركة في المزايدة، فإن “ليبان بوست” ستقوم بتسيير المرفق لغاية 30 أيار المقبل، أما إذا حصلت مزايدة قبل هذا التاريخ، فيتم تسليم القطاع للمستثمر الجديد.
هذا وحسّنت الدولة من شروط العقد، مصدرة دفتر شروط جديد يتضمّن إعادة النظر في الإيجارات، على أن تجني الدولة حصّتها من الأرباح بالدولار “الفريش” وتصل هذه الأخيرة إلى 10% على جميع أرباح الشركة، بالإضافة إلى دفعها مسبقاً للدولة. ولكن إذا ما لم تتقدّم أيّ شركة غير “ليبان بوست” للمناقصة، قد ينتهي المطاف بتجديد عقد الأخيرة وفق الشروط السابقة. وكانت الشركة قد بدأت بتقنين خدماتها كنوع من الضغط على الدولة، على قاعدة “أنا أو لا أحد”.
إضراب موظفي “ليبان بوست”: الرواتب بالليرة والأرباح بالدولار
في المقابل ومنذ العام 2021 بدأ موظفو “ليبان بوست” بإعلان الإضراب احتجاجاً على عدم المساواة في الرواتب، في ظلّ غلاء المعيشة والارتفاع الصاروخي للدولار وانخفاض القدرة الشرائية للأفراد.
وطال هذا الإضراب معظم فروع الشركة على الأراضي اللبنانيّة. فقد امتنع الموظفون عن العمل، مهددين بالإضراب المفتوح. إلاّ أنّ الشركة وبعد كلّ إحتجاج تدعو موظفيها إلى العودة للعمل، مهددة باتخاذ إجراءات صارمة في حقهم، إلى أن وعدت الموظفين بتصحيح رواتبهم في كانون الأوّل من العام الفائت.
“ولكنّ الشركة لم تفِ بوعدها”، تقول إحدى الموظفات في فرع عكّار. والتي أكّدت في حديثها لـ”المدن” أنّ “الشركة كانت قد وعدت الموظفين بزيادة الرواتب ليتبيّن فيما بعد أنّها كانت تشتري وقتاً وتبيعنا أوهاماً”.
وكشفت الموظّفة “أنّها تتقاضى راتبها من الشركة بالليرة اللبنانية. وقيمته 4 ملايين و400 ألف ليرة لبنانيّة، أيّ 50$ إذا ما احتسبنا سعر صرف دولار السوق السوداء على الـ88 ألف ليرة! وهو يشمل بدل النقل! وهذا الشهر تقاضينا زودة على الراتب بقيمة 900 ألف ليرة فقط. في الوقت الذي تجني فيه الشركة أرباحها بالدولار الفريش! وهو ما نطالب به الشركة، أي تعديل الرواتب وإعطاؤها بالدولار”.
وأكّدت الموظّفة أن ّ”بعض الموظفين يداومون في مراكزهم، واليوم هو يوم عمل عاديّ، إلا أنّ موزعي البريد هم الذين أضربوا. وقام موزعو البريد بإقناع أكبر عدد من المكاتب بالاضراب، والتزم القسم الأكبر منها، فيما لم يلتزم كل من فرع سن الفيل والمتحف والاشرفية بالإضراب بطلب من مدرائها. بعد أن أغروا الموظفين بخمسة أيام عطل إضافية”.
والمشكلة التي يعاني منها موظفو البريد تحديداً، تضيف الموظّفة، هي أنّ “هؤلاء يستخدمون سياراتهم الخاصّة في توصيل البريد إلى صاحب العلاقة، ما يرتّب عليهم خسائر ماديّة كبيرة، من ناحية كلفة البنزين، وصيانة السيارات، خصوصاً وأنّهم لا يتقاضون بدلاً مالياً إضافياً لصيانتها. كما يستخدم الموظفون هواتفهم الخاصّة، ما يكلّفهم مخابرات كثيرة، للتواصل مع الزبائن، في الوقت الذي لا تقدّم لهم الشركة أي بطاقات تشريج أو بدل مادي لقاء هذه التكلفة”.
وكانت إدارة الشركة قد وعدت الموظفين بتحسين رواتبهم، إذا ما كسبت الشركة المزايدة، تتابع، “ولكن بعد فشل جلسة المزايدة، عاقبت الشركة موظفيها، ولم تفِ بوعدها”.
وأكدت أن “الموظفين ناقمون منذ أكثر من أربع سنوات بسبب رواتبهم التي لا تكفيهم”. لتبقى المشكلة مع إضراب موظفي البريد أن المعاملات اليوم معلّقة إلى أمد غير معروف.