ما إن أُنجزت خطة الكهرباء، حتى بدأ إطلاق النار على إدارة المناقصات. أوحى رئيس الحكومة أنها المسؤولة عن أزمة الكهرباء، لا السياسات الحكومية المتعاقبة. وخوفاً من «العرقلة»، لم تحوَّل إليها المناقصة إلا بعد أن نُزعت منها صلاحياتها. وفي الطريق إلى ذلك، جرى التغاضي عن الدستور الذي يفرض إعطاء الامتيازات بقانون
أقرّ مجلس الوزراء خطة الكهرباء، محتفلاً بإنجاز أعلن أنه سيؤدي إلى خفض العجز وزيادة التغذية بالتيار. لكن ما لم يكن في الحسبان، كان انحراف النقاش نحو إدارة المناقصات التي حوّلت في الخطة وفي الجلسة الحكومية الأخيرة وما بعدها إلى شر مطلق. العونيون حاولوا حتى النهاية منع تدخّل إدارة المناقصات بالصفقات التي تنوي وزارة الطاقة إطلاقها لبناء معامل الإنتاج. لكن لأن المعارضة لهذا الطرح كانت قوية، اتفق على حلّ وسط بدا مخيباً للآمال بالنسبة إلى كثر. إدارة المناقصات ستنفذ المناقصة، لكنها ستكون مقيّدة في عملها بنصوص قانونية وقرارات حكومية تحوّلها عملياً إلى أداة لتنفيذ ما تُقرره وزارة الطاقة. هذا ما قُرئ في مشروع القانون الذي اتفق عليه في مجلس الوزراء والذي ينص على الآتي:
«المادة الأولى: يُمدَّد العمل بأحكام القانون 288/2014 لمدة ثلاث سنوات (إعطاء صلاحية الترخيص إلى مجلس الوزراء بدلاً من الهيئة الناظمة للقطاع).
المادة الثانية: أ- «تلزم مشاريع بناء معامل تعتمد طريقة التصميم والتمويل والإنتاج والتشغيل والتسليم إلى الدولة بعد فترة زمنية بشروط تحدد بتفاصيلها الإدارية والتقنية والمالية الكاملة في دفتر شروط خاص تعدّه وزارة الطاقة والمياه.
ب- يُستثى في مراحل إتمام المناقصات تطبيق أحكام قانون المحاسبة العمومية وسائر النصوص ذات الصلة بأصول التلزيم التي لا تتفق مع طبيعة التلزيم والعقود موضوعها».
إلى أن يعرض هذا المشروع على الهيئة العامة لمجلس النواب (علمت «الأخبار» أن الرئيس نبيه بري سيحيل المشروع أولاً على لجنة الأشغال النيابية، مع إعطائها مهلة أسبوع لدرسه)، بدأت تخرج بعض الأصوات المتحفظة عليه، انطلاقاً من سببين:
1- يتخطى المشروع المادة 89 من الدستور، التي تنص على أنه لا يجوز منح أي التزام أو امتياز لاستغلال مصلحة ذات منفعة عامة إلا بقانون ولمدة محدودة. بل يذهب الاقتراح إلى إعطاء هذه الصلاحية لوزارة.
2- يخالف كل الوعود المتعلقة بتعزيز الشفافية والإصلاح، وأحد شروطها تعزيز دور إدارة المناقصات، فإذا به يساهم في ضربها وضرب قدرتها على حماية إجراء مناقصات شفافة، بعدما ضرب قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص، لمصلحة تحكم الوزارة بآلية إجراء المناقصة. وهو أمر إن تحقق سيشكل سابقة تستفيد منها كل الوزارات لتخطي إدارة المناقصات لتنفيذ مشاريع وفق نظام الـBOT (إنشاء وتشغيل من قبل القطاع الخاص، ثم نقل الملكية إلى الدولة بعد سنوات عديدة). وكل ذلك يجري في ظل وجود اقتراح قانون في المجلس النيابي لإخضاع كل الصفقات العمومية لإدارة المناقصات (قدمه النائبان نواف الموسوي وهاني قبيسي).
مع ذلك، فإن وجهتي نظر متناقضتين تتنازعان المشروع. الأولى تعتبر أن القانون يفتح المجال أمام إدارة المناقصات لإعداد المناقصات المتعلقة بنظام BOT، بعدما كان ذلك متعذراً، عبر استثناء بعض أحكام قانون المحاسبة العمومية التي لا يمكن تطبيقها على هذا النوع من العقود، ومن هؤلاء مقدّم الاقتراح إلى مجلس الوزراء، الوزير محمد فنيش. ويعتبر هؤلاء أيضاً أن دور إدارة المناقصات دور إداري، لا تقني، وبالتالي فهي التي تعد المناقصة وتحضرها، فيما الشروط التقنية تحدد في دفتر الشروط. كذلك لا ينسون الإشارة إلى أن إدارة المناقصات ستراقب حسن التنفيذ وفقاً لدفتر الشروط الذي يقر في مجلس الوزراء، ويضم في داخله الشروط الإدارية والقانونية التي تعوّض توقيف العمل في بعض بنود قانون المحاسبة العمومية.
المشكلة أكبر من ذلك، بحسب وجهة النظر المقابلة. فالفقرة الأولى من البند الثاني، التي تتحدث عن طبيعة التلزيم، تُعطي تفويضاً للحكومة بصلاحيات تشريعية، وبشكل فضفاض، بينما هذا النوع من العقود يفترض أن يقر بقانون مستقل ولمدة تحدد في القانون نفسه، بحسب المادة 89 من من الدستور. وبالتالي، لا يجوز إعطاء إجازة شاملة ولمدة غير محددة بشكل واضح.
الفقرة الثانية من المادة الثانية، فيها من الإبهام ما يتعذر تفسيره بحسب أحد النواب، الذي يعتبر أن المعركة قد انتهت بإقرار الخطة، إلا أن ذلك لا يحول دون الرقابة على تفاصيل تنفيذها. يعتبر المصدر أن كل قوانين العالم ترسم القاعدة العامة ثم تذهب إلى تحديد الاستثناء، إلا أن المادة التي اتفق عليها تتحدث عن استثناء كل النصوص ذات الصلة، بدل التشديد على إخضاع صفقات الـ BOT لآليات إجراء المناقصات المنصوص عليها في قانون المحاسبة العمومية، ولا يستثنى منها سوى طريقة الدفع. لكن ما حصل أن الحكومة لم تكتفِ باستثناء أحكام من قانون المحاسبة العمومية، بل ذهبت إلى «سائر النصوص ذات الصلة بأصول التلزيم التي لا تتفق مع BOT»، علماً أن أصول التلزيم التي يوضحها نظام إدارة المناقصات لا تتعارض مع أي عقد ومهما كان نوعه. وهي أصول إجرائية تتعلق بطريق إجراء المناقصات بالمطلق، وخاصة ما يتعلق بالمادة 17 من النظام، التي تنص على أن «إدارة المناقصات تدقق في محتويات الملف وتتثبت من خلوه من المخالفات والنواقص، وتتأكد بصورة خاصة من:
أ- إدراج المناقصة في البرنامج السنوي العام أو وجود ترخيص بإجرائها.
ب- احتواء الملف على المستندات المفروضة.
ج- وجود ما يثبت توافر الاعتماد للصفقة.
د- تصديق دفتر الشروط الخاصة من المرجع الصالح وانطباق أحكامه على القوانين والأنظمة.
هـ- خلو دفتر الشروط الخاصة والمستندات من كل ما من شأنه تقييد المنافسة أو ترجيح كفة أحد المنافسين.
و- عدم تجزئة الأشغال أو اللوازم بغية التهرب من تطبيق الأحكام القانونية ودون أي مبرر فني أو مالي.
ز- صحة تقدير الكميات والأسعار.
اللافت أن كل هذه الحملة على إدارة المناقصات مبنية على صفقة البواخر التي لم تنجح، والتي يتهم العونيون مدير إدارة المناقصات جان العلية بعرقلتها. حينها كان الأخير يحذر من أن الشروط المطلوبة لا تنطبق إلا على عارض وحيد وأن مدة الإعلان لا يمكن التزامها إلا من عارض وحيد أو من عارضين بملفات غير مكتملة. وبالتجربة، تبين أن هذه الملاحظات كانت صحيحة وأن عارضاً وحيداً هو الذي تأهل للمنافسة، فرفضت الإدارة السير بها، وهو ما أغضب وزارة الطاقة ورئيس الحكومة، الذي تحول إلى جزء من حملة تستهدف المؤسسات، بدلاً من أن يتولى حمايتها وتعزيز دورها. وعوضاً عن السير بالمسار الرقابي لمحاسبة مدير المناقصات إذا أخطأ، عمد الحريري إلى تشويه سمعة الإدارة وتحميلها مسؤولية فشل السياسات الحكومية المتعاقبة، معلناً بعد جلسة مجلس الوزراء أنه ممنوع على أي إدارة أن تعرقل!