مبادرات سياحية تُبلسم جروح بيروت وتُعيد لها شيئاً من روحها المفقودة

قد يكون فندق فينيسيا من المعالم القليلة في العالم التي تحمل صفة “اسم على مسمّى”. فكما ينبعث طائر الفينيق في الميثولوجيا الإغريقية من رماد احتراق جسده، كُتب على “فينيسيا” أن يتلبّس التسمية، ويجدد نفسه بشكل متكرر.

للمرة الثالثة في غضون عقدين يعاد ترميم فندق فينيسيا، بعد تعرضه للتدمير الكلي أو الجزئي. إذ لم يكد ينفض عنه غبار الحرب الاهلية في العام 2000، وينسى مع “أترابه” التخريب الوحشي الذي طاله في معركة الفنادق الشهيرة في العام 1975، حتى زُرع “تحت شرفاته” في العام 2005 ما يناهز 2.5 طن من مادة TNT المتفجرة، لتنفيذ مخطط اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. نجا موظفوه ونزلاؤه باعجوبة، فيما لملم خسائره التي قدرت بـ 10 ملايين دولار بسرعة قياسية، وعاد إلى العمل بعد فترة قصيرة. بعدها بخمسة عشر عاماً توّجت المنظومة مسيرتها البائسة من الحروب والخضات السياسية والامنية والاغتيالات السياسية، بتفجير المرفأ. فنال النصيب الوافر من التهديم مرة جديدة. وعلى عكس انفجار شباط 2005، حيث أعاد الفندق إحياء نفسه سريعاً، لم يعد فينيسيا إلى العمل إلا بعد نحو عامين وشهرين من تفجير المرفأ.

الخسائر كبيرة

لا رقم رسمياً صدر عن إدارة الفندق يقدر حجم الضرر من تفجير المرفأ، إلا أنه بالتأكيد يصل الى عشرات ملايين الدولارات. أما الخسائر التشغيلية فيمكن تقديرها بأكثر من 100 ألف دولار في اليوم، إذ كان معدل الاشغال بحدود 80 في المئة. فالفندق يضم نحو 460 غرفة، بايجار يبدأ بـ 250 دولارا لليلة الواحدة. هذا طبعاً عدا عن الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية التي تقام في قاعاته، وزوار مطاعمه العالمية العديدة. وعليه فان كلفة التوقف عن العمل لمدة 800 يوم قد تصل إلى مليون دولار أميركي، أو حتى أكثر.

هل غطى التأمين الأضرار

بحسب المعلومات فان طبيعة التأمين على الفندق، أخذت في الاعتبار بعد تفجير 2005، تغطية الاعمال الناتجة عن الحروب والهجمات الارهابية. ويتوقع أن تكون شركات إعادة التأمين العالمية قد عوضت جزءاً من الخسائر. وذلك على عكس بقية المؤسسات السياحية وغير السياحية التي ما زالت تنتظر التقرير النهائي لطبيعة انفجار المرفأ ليبنى على الشيء مقتضاه. لا سيما أن عقود التأمين لا تغطي عادة إلا الحوادث غير المقصودة. وفي حال كان التفجير نتيجة قصف أو عمل ارهابي أو تفجير مفتعل، فان شركات إعادة التأمين لن تغطي الاضرار التي ما زالت معلقة والمقدرة بأكثر من مليار دولار.

ثلثا الفندق عاد إلى العمل

يتألف فندق فينيسيا من 3 أبنية رئيسية. وقد أعيد بحسب المدير العام للفندق منريكي رودريغيز “افتتاح مبنيين من المباني الثلاثة، وهي: مبنى فينيسيا ويتألف من 193 غرفة، بما في ذلك 3 أجنحة رئاسية. ومبنى “ريزيدنس”. فيما لا يزال المبنى “الروماني” الثالث، الذي يضم 253 غرفة، قيد الإنشاء، ولم يتم تحديد موعد حتى الآن لإعادة افتتاحه”.

دليل أمل!

في الوقت الذي تُقفل فيه مؤسسات سياحية، لطالما اعتبرت من نسيج العاصمة كفندق بريستول، وتعتكف شركات عالمية عن ترميم فنادقها، مثل Le Gray، فان إعادة افتتاح فندق 5 نجوم بحجم فندق فينيسيا يطرح تساؤلين أساسيين:

الاول، يتعلق بالقدرة على الاستمرارية. خصوصاً أن الفندق يعتمد على سياحة الاثرياء والخليجيين، وعلى سياحة الاعمال من مؤتمرات ومعارض. وللأسف، فان لبنان فقد هذين النوعين من السياحة، نتيجة الخضات السياسية بشكل أساسي.

الثاني، يتعلق بالسؤال عما إذا كانت إعادة افتتاح الفندق تعني أن هناك أملاً بتحسن الاوضاع في المستقبل القريب، وعودة بيروت إلى خريطة السياحة العربية والعالمية؟

بحسب رودريغيز فان “الفندق يلبي جميع متطلبات السياح على مختلف فئاتهم وجنسياتهم. وهو يشكل عامل جذب لسياحة MICE – Meetings) (Incentives, Conferences and Exhibitions tourism وهذا النوع من السياحة يتم فيه الجمع بين مجموعات كبيرة، وعادة ما يتم التخطيط لها مسبقاً بوقت كاف. كما يستقبل الفندق أيضا الزوار من الخليج وأوروبا وكذلك المغتربين اللبنانيين”. (شكلوا 80 في المئة من مجمل عدد السياح في العام الحالي). وقد أكّد رودريغيز أن “الفندق قام بالفعل بتأمين حجوزات تمثل جميع القطاعات المختلفة”، وهو لا يزال متفائلاً بالمستقبل. أما في ما يتعلق بالربط بين إعادة افتتاح الفندق والنهوض الاقتصادي والسياحي للبنان عامة وبيروت خاصة، فـ”هذا أمر مفروغ منه”، بحسب رودريغيز. و”قد وعدنا بأنه معاً سننهض من أجل بيروت. وها نحن نرتقي من جديد مع فريقنا المتفاني المستعد لإنجاح ذلك. فـفينيسيا عكس على مر السنين، روح لبنان والقدرة على تحدي الصعاب والخروج أقوى من أي وقت مضى”.

رمز للضيافة

يمثل فينيسيا بالنسبة للسياحة، رمزاً للضيافة الحقيقية. فقد كان أول فندق إنتركونتيننتال يتم افتتاحه في الشرق الأوسط. وظل منذ ذلك الوقت في طليعة الضيافة. أما بالنسبة لبيروت، فان فينيسيا هو بمثابة “La Grande Dame”، على حد وصف رودريغيز. أي أنه أكثر بكثير من مجرد فندق، بل هو رابط اجتماعي وثقافي، ظل وفياً للبنانيين في جميع فترات الصعود والهبوط . وهوالمرآة التي تعكس وجه المدينة المحيطة به ومواطنيها وزوارها، وما يتركونه من قصص وآمال وأحلام وطموحات. لدرجة أن “الفندق يشعر وكأنه أسرة وموطن للعديد من الأشخاص”، يضيف رودريغيز. “لذا لا ينبغي أن نقلل من أهمية رمزية إعادة افتتاحه من حيث ما يعنيه كل ذلك لبيروت”.

المستقبل واعد

الفندق الذي سيعاد تشغيله في ظل أسوأ أزمة اقتصادية على الإطلاق، وفي ظل ارتفاع تكاليف العمل والإنتاج. ولا سيما في ما يتعلق بأسعار المحروقات وأكلاف الصيانة ستكون أسعاره بالدولار. وهي ستبدأ بالنسبة للغرف العادية بـ 250 دولاراً لليلة الواحدة. وقد بلغت نسبة الإشغال منذ افتتاحة حوالى 60 في المئة ويتوقع أن تصل إلى 100 في المئة في حلول العام القادم. ويشكل الفندق فرصة عمل حقيقية لعشرات الشباب المتخصصين في قطاعات الادارة وخدمة الزبائن والفندقية والضيافة وإعداد المأكولات، وهو يستوعب حالياً نحو 350 موظفاً، 70 في المئة منهم كانوا موظفين سابقين قبل تفجير مرفأ بيروت. ومما لمسه رودريغيز خلال فترة التحضير للافتتاح أن “الشباب اللبنانيين لديهم دوافع عالية للعمل، وقد شاركونا حماسنا في ما يتعلق بإعادة افتتاح الفندق وإعطائهم الفرصة لعرض مهاراتهم في خدمة الضيافة الأسطورية”.

هل هي نعمة أم نقمة، أن يحمل فندق فينيسيا أسم الحضارة الفينيقية ويتشارك مع طائر الفينيق اسطورة تجدده؟! فالفينقيون الذين كانوا رمز الازدهار والتقدم والعمران، لم يسلموا من المضايقات وشن الحروب عليهم، فيما كتب على طائر الفينيق الانبعاث من رماده مراراً وتكراراً. ولكن في الحالتين خُلدت ذاكرة أبناء فينيقيا، وتحول الطائر إلى مشروع أمل على مر التاريخ. وهكذا هو فندق فينيسيا ذاكرة خالدة يعيد مع كل تجدد جزءاً من روح العاصمة المفقودة.

مصدرنداء الوطن - خالد أبو شقرا
المادة السابقةموظفو القطاع العام: يا زمان معتمَد القبض
المقالة القادمةمصلحة تسجيل السيارات: هكذا كَبُرَت كرة الثلج