موظفو القطاع العام: يا زمان معتمَد القبض

«الله يرحم أيام معتمدي القبض»، تتكرّر هذه العبارة على لسان موظفي القطاع العام الذين يعانون الأمرّين لسحب رواتبهم جرّاء الأزمة المالية والمصرفية في البلاد. يشتعلون حنيناً إلى تلك الحقبة، عندما كان معتمد القبض يحمل محفظة المال ويوزّع عليهم الرواتب نقداً، وحتى من لم يعاصر هذه الحقبة يتمنى لو تعود

في بداية كلّ شهر، يقف موظفو القطاع العام في طوابير أمام الصرّافات الآلية لسحب رواتبهم وبدلات النقل والتقديمات المالية. يبحثون عن فرع للمصرف بعيد عن الأنظار لتكون الزحمة أقلّ. يقصدونه من مكان بعيد، ليُفاجؤوا في بعض الأحيان أن القبض لم ينزل بعد، أو يأتي دورهم فيجدون أنّ الآلة قد نفدت من الأموال.

المشكلة مضاعفة في القرى والمناطق النائية، حيث أقفلت بعض المصارف فروعها، وتوجّب على الموظف البحث عن فرع آخر متحمّلاً عبء المواصلات، لذلك صار البعض يعطي بطاقته لأقاربه في بيروت لسحب راتبه. ففي الهرمل مثلاً، حيث يكثر موظفو القطاع العام ولا سيما في السلك العسكري، أقرب فرع لبنك «سوسيتيه جنرال» في اللبوة يبعد 25 كيلومتراً. وأقرب فرع لبنك blc في زحلة، ويبعد 92 كيلومتراً تقريباً، فيما يقع أقرب فرع لـ«فرنسبنك» في بعلبك ويبعد 60 كيلومتراً. هذا كله في كفّة، وخفض سقف الإنفاق وحجز الرواتب والمخصّصات في كفّة ثانية. إذ حدّدت المصارف سقفاً للسّحوب، وفرضت استخدام جزء من الوديعة في نقاط عبر بطاقات مصرفية، علماً أن بعض المحال عمدت إلى خفض نسبة المبيع عبر البطاقات أو إلغائها.

معتمد القبض: أي مهمّة؟

من خلال صيته الحسن وسمعته الطيبة، لا يزال معتمد القبض فيصل عمّار (72 عاماً) عالقاً في أذهان الأساتذة في ثانوية الغبيري الأولى الرسمية، رغم أنه تقاعد منذ عام 2014. العودة إلى تجربته كمعتمد قبض انتشلته من دوامة الملل المقيتة، فهو «صباحاً، ينتظر حلول المساء. ومساء، ينتظر حلول الصباح». لا يذكر متى عُيّن معتمد قبض، يعرف أن هذه كانت مهمته «في أواخر التسعينيات باقتراح من الأساتذة في ثانوية الغبيري الأولى حيث أُدرّس، وبالتنسيق مع الإدارة الذين وجدوني أميناً عندما كنت أمين صندوق الثانوية».

مهمّة فيصل، التي لم يتقاضَ بدلاً عنها، ولا حتى بدل نقل، غير تخفيض ساعات العمل، كانت تبدأ من تحضير جداول القبض يدوياً قبل أن تتحوّل وزارة التربية والتعليم إلى المكننة، وإدراج أسماء الموظفين ومستحقاتهم في جداول جاهزة «يشيّك» عليها معتمد القبض. يرسل فيصل الجداول إلى الإدارة وينتظر تجهيز الوزارة للحوالة، ثم يأخذها كورقة إصدار من مصرف لبنان إلى أحد المصارف القريبة من مكان العمل. ظلّ فيصل يحمل رواتب الموظفين نقداً من المصرف ويوزّعها عليهم لبضعة سنوات، قبل أن تتحوّل العملية إلى صرف شيكات مصرفية توزّع على الموظفين الذين يتولون السحب بأنفسهم.

لا يمكن العودة إلى تلك الحقبة من دون التوقف عند كسر الألف أو الليرة، وتعني حسم معتمدي القبض لما يتبقى من الألف من ليرات، ومن الليرة من قروش، في وقت سابق. يروي فيصل ما حصل عندما جاء أحد المفتشين في الوزارة وسأله عن السبب الذي يدفعه لحسم كسر الألف، أجابه أنه يفعل ذلك ليغطي نفقات المصرف، فلم يقتنع، لذا أخبره فيصل أنه سيتوقف عن تأدية مهامه كمعتمد قبض. وبعد خروج المفتش من غرفة المدير أخبره أنه بإمكانه متابعة عمله، «عرفت بعدها أنه تلقى تحذيراً من المدير أنه لن يجد بدلاً مني». إيجاد معتمد قبض كان أمراً صعباً، «فقلّة ترضى بتحمّل مسؤولية نقل الأموال ومشقّة عدّها وتوزيعها»، كما يقول معتمد قبض في وزارة المالية، «أحرجوني كي أحملها بعد تقاعد معتمد القبض في الوزارة». وكان يجد في كسر الألف «بقشيشاً» يعرضه عليه الموظف بدل أتعاب ونقل بشكل اختياري من دون أن يطلبه منه. كونه معتمد قبض وزارة «الأموال»، لم يمرّ بمصرف لبنان، بل كان يأخذ المال من صناديق المالية في رياض الصلح ويذهب بها إلى الوزارة في بشارة الخوري، ليوزّعها على الموظفين.

بين الأمس واليوم

تذكر إحدى الأستاذات التي تقاعدت منذ عامين، أنّ معتمد القبض كان يُستقبل مطلع كلّ شهر بحفاوة عريس، «نغني ونهلل له، وكان ليوم القبض خصوصيته. يقصد الأساتذة والموظفون مكتب الأستاذ فيصل عند الفرصة أو يتركون الصف لدقائق، يستلمون المال، يوقّعون، ويتركون الربع أو النصف ليرة له». لم يتأخر القبض يوماً عن 2 الشهر، ومن دون عناء أو مشقة كانوا يتقاضون رواتبهم. تقارن الأستاذة وضعها بين الأمس واليوم، لتلاحظ كيف فقدت الأشياء قيمتها. «بدأت براتب 326 ليرة ونصف الليرة واشتريت بالراتب الأول مسجّلة وتلفزيوناً وقالب حلوى للعائلة ولم يبق منه غير ثمن بطاقة الأتوبيس لأصل إلى عملي». أما اليوم، بالكاد يساوي الراتب فاتورة اشتراك الكهرباء». وفي حين كان ينتظر الأساتذة الدرجات والعيديات و«نكيّف عليها»، صارت كل التقديمات التي وعدوا بها «بلا قيمة».

محفظة المال

حكاية معتمد القبض تتلخّص لدى المساعد القضائي المتقاعد في العدلية في بعبدا محمود (75 عاماً) بـ«محفظة المال التي ينتظرها جميع الموظفين والقضاة أول الشهر». كان صبحي علامة، والد المطرب راغب علامة، وهو موظف في العدلية معتمد القبض آنذاك، «يأتي بالحوالة من مصرف لبنان ليدفع رواتب نحو 70 موظفاً وقاضياً». عندما تصل محفظة المال الشهيرة برفقة صبحي «نكون منشغلين بأعمالنا، يصلنا الخبر فنقصده في مكتبه ويكون قد حضّر راتب كل منّا في مغلّف مكتوب عليه اسمه، نستلم، نعدّ العشرات والخمسات ثم نوقع ونغادر». كان محمود يتقاضى 255 ليرة و65 قرشاً، يأخذ معتمد القبض كسر الليرة، أي الـ65 قرشاً.

إبّان الحرب الأهلية، كانت تخصص لمحفظة المال ومعتمد القبض معاً مواكبة أمنية وحزبية. فـ«عندما تكون الطرقات مقفلة ويتعذّر على معتمد القبض اجتياز خطوط التماس بين منزله في الغربية والعدلية في الشرقية كانت تفتح له طرقات آمنة»، يتذكر محمود. ويضيف موظف في إحدى الوزارات: «ذات مرة، قصدني معتمد القبض حيث أختبئ وعائلتي من ويلات الحرب الأهلية في ملجأ ليسلّمني القبض».

سمع كثيرون عن تعرّض معتمدي القبض للسرقة أثناء توصيل محفظة المال، وادّعاء آخرين ذلك ليتبيّن احتيالهم أثناء التحقيق معهم. لذا، جرى التحوّل نحو سياسة القبض بالشيكات، حيث يحصل معتمد القبض على شيكات مصرفية يوزعها على الموظفين الذين يسحبون بدورهم رواتبهم، قبل أن يجري دفع الرواتب وملحقاتها بواسطة المصارف التجارية، أو عبر ما يسمى بـ«التوطين»… لينتهي بذلك زمن معتمدي القبض.

مصدرجريدة الأخبار - زينب حمود
المادة السابقةتعديلات لم تعدّل «السرية المصرفية»: قوانين مجلس النواب تُصاغ بـ«التفنيص»
المقالة القادمةمبادرات سياحية تُبلسم جروح بيروت وتُعيد لها شيئاً من روحها المفقودة