وفي اليوم الثاني على مسارِ مناقشةِ مشروعِ موازنةِ 2019 على طاولة مجلس الوزراء اللبناني تحت عنوان التقشُّف لتَفادي الانهيار، تَدَحْرَجَتْ الأسئلةُ التي «نافستْ» الأرقامَ على تخومِ «المتاريس» السياسية التي ارتفعتْ بين بعض مكوّنات الحكومة واستمرار ضغط الشارع «المستنفَر» ضدّ أي اقتطاعات من الرواتب في القطاع العام أو ضرائب جديدة، فيما كانت «جبهةُ» رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط – «حزب الله» تشهد هبّةً ساخنة جديدة مع التسريبات عن اتخاذ الحزب قراراً بـ«تصفير» علاقاته مع الزعيم الدرزي و«تحريمها» على حلفائه في قوى 8 آذار واتهامه بـ«الخيانة العظمى».
ومع انطلاق البحث التفصيلي في مشروع الموازنة أمس في الجلسة التي عقدتْها الحكومة برئاسة الرئيس سعد الحريري على أن يُستكمل في جلسات متتالية اليوم وغداً والسبت وحتى الأحد إذا لَزِم الأمر في إطار الحرص على الإسراع بإنجازه ثم إحالته على مجلس النواب، تشابكتْ الأرقام مع صخب الشارع وملامح تَشكُّل «محاور» لتبادُل إطلاق النار السياسية، وهو ما أرخى بثقله على مجمل المساعي الرامية إلى وضْع لبنان على سكة إصلاحية تشترطها الدول المانحة في مؤتمر «سيدر» وتْمليها المَخاطر العالية التي بات يشكّلها عبء الدين العام والعجز الى الناتج المحلي وثِقل القطاع العام وأكلاف الهدر والفساد.
وإذا كانت أرقام الموازنة وتحديداً سلّة الخيارات المؤلمة بقيت في دائرةٍ «رمادية» وسط ملامح «تبرؤ» من بعضها وعدم تجرؤ على كشْف بعضها الآخَر، فإن الحِراك الشعبي – النقابي «المتحفّز» ضدّ أي مساس بالرواتب في القطاع العام (موظفين في الخدمة ومتقاعدين) وملحقاتها أو اعتماد ضرائب جديدة يمْضي بوضوح نحو أهدافه المعلنة، رغم علامات الاستفهام حول خلفياتٍ مكتومة قد تكون وراء انفلاشِ الاحتجاجات بوجه خياراتٍ غير محسومةٍ، في سياقِ إما تبادُلِ «رسْم الخطوط الحمر» حول هذه الخيارات بـ«رعايةٍ خلْفية» من أطراف سياسية وإما «لعبة عض أصابع» هدفها وضْع القطاع المصرفي أمام «أمر واقع» لحمْله على المشاركة في خفض كلفة الدين العام ولو من دون إصلاحاتٍ جذرية يشترطها هذا القطاع.
ولم يمرّ الأول من مايو الذي يُصادِف يوم عيد العمّال دون تَحَوُّلِ الاحتفالات والاعتصامات في المناسبة محطةً لتكريس التحذير من أي مساراتٍ ضريبية أو اقتطاعية من الرواتب والتقديمات وإطلاق «صرخة بوجه الفساد والمُفْسِدين»، وهو ما جرى التعبير عنه سواء في الاحتفال الذي أقامه الاتحاد العمالي العام او المسيرات التي نظّمتها مجموعات يسارية والاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان وصولاً الى «ساحة الشهداء» حيث أُعلن عن نصب خيم لاعتصام مفتوح يرافق مناقشات الموازنة وإضراب الأيام الثلاثة في المؤسسات العامة الذي يبدأ اليوم ويستمر حتى السبت.
ولم يكن حِراكُ الشارعِ هو الوحيد الذي ظلَّل جلسة مجلس الوزراء، بعدما طغت عليها «منازلات كلامية» من العيار الثقيل سبقت انعقادها وتحديداً بين وزير المال علي حسن خليل (من فريق الرئيس نبيه بري) وفريق رئيس الجمهورية ميشال عون ودارت على 3 محاور: كلام وزير الدفاع الياس بو صعب الذي رفَض فيه (قبل انطلاق مناقشات الموازنة اول من امس) أي مساس برواتب العسكريين الحاليين والمتقاعدين وبالتدبير رقم 3 بمعزل عن رأس قيادة الجيش والوزارة، وتسريب مداخلة وزير الاقتصاد منصور بطيش خلال جلسة الثلاثاء واقتراحاته لخفْض العجز في الموازنة وملاحظاته على مشروعها، وصولاً الى ما نُقل عن وزير الخارجية جبران باسيل من أنه «لن يقبل إطلاقاً بعدم وضع اعتماد طريق القديسين ومرفأ جونيه في موازنة 2019 وإلا لن يمشي أي مشروع آخر في البلد».
وحرص خليل قبل بدء جلسة الحكومة أمس على الردّ العنيف على هذا «الثلاثي» وإن من دون تسميته، سائلاً: «لماذا إعطاء صورة وكأننا نريد الذهاب الى مواجهة بين بعضنا البعض؟ كان قرارنا منذ البداية اننا لا نريد إقامة متاريس»، معلناً «كل المزايدات حول موضوع الجيش والأجهزة الأمنية هي في غير محلها، وأكرر أنه ليس صحيحاً على الإطلاق ان هناك استهدافاً للجيش والحديث عن رواتب وأجور وتعويضات وتقاعُد، كل هذا الكلام يراد منه خلق بلبلة وشرخ في البلد»، متوجهاً «مباشرة الى قيادة الجيش ووزارة الدفاع لأن عليهم ألا يُدخلوا أنفسهم في مثل هكذا إشكالات وصراعات وهمية والتي يحاول البعض تسجيل انتصارات وهمية حولها»، ومضيفاً: «من المعيب ان يتم طرح وكأن هناك استهدافاً لمنطقة معينة وانه تم سحب اعتمادات لمنطقة مثل طريق القديسين او مرفأ جونية. وهذان المشروعان بالتحديد أموالهما متوافرة ويمكن عقدها حتى قبل اقرار الموازنة»، متمنياً «على مَن ليست لديه خبرة في إدارة المال العام وكيفية إدارة الموازنات إن يسأل كي لا يقع في أخطاء».
وفيما أثار هذا المناخ غير المريح أسئلة كثيرة حول خلفياته وإذا كان في إطار مزايداتٍ لقطْف ثمار سقوط بعض الإجراءات الموجِعة أو في سياق التعبير عن المعوقات التي ستعترض ولادة موازنةٍ بات توصف حتى لو نجحت الحكومة في استيلادها قيصرياً بأنها «موازنة جبانة»، انشغل الوسط السياسي بمؤشراتٍ لانتقال العلاقة بين الزعيم الدرزي وليد جنبلاط و«حزب الله» الى مستوى بالغ التوتر على خلفية تبايناتٍ انفجرتْ مع قرار لوزير الصناعة وائل أبو فاعور كسِر قراراً لسَلَفه من «حزب الله» بمنْح ترخيص لإقامة معمل أسمنت لآل فتوش في عين دارة (عاد وأبطل القرار مجلس شورى الدولة)، وصولاً الى إعلان جنبلاط أن مزارع شبعا غير لبنانية، وبينهما استشعارُ الأخير بمحاولة من النظام السوري وحلفائه في لبنان لتطويقه.
وكان بارزاً أمس ما نُقل (عبر صحيفة «اللواء») عن «حزب الله» من أن «جنبلاط انتهى سياسياً ووطنياً»، وان كلامه حول مزارع شبعا يرتقي الى «الخيانة العظمى» وأنه «محرَّم التعامل معه وطنياً حتى لو قرر التراجع عن كلامه، وأكثر من ذلك فقد اصبح واجباً ملاحقته قانونياً (…) أضف الى ذلك فان جنبلاط بات ملزماً تحت قوة القانون باعتزال العمل السياسي نهائياً».