من المفترض أن يتابع المجلس النيابي اليوم الجمعة مناقشة مشروع قانون موازنة العام 2022، في استكمال لسلسلة العراضات الإعلاميّة التي بدأت يوم أول أمس الخميس تحت قبّة البرلمان. ومن المتوقّع أن تصوّت غالبيّة القوى السياسيّة باتجاه إقرار الموازنة في النهاية، إنما بعد استكمال الهجوم الاستعراضي عليها في الجلسات العلنيّة، رغم مساهمة كل هذه القوى في إعداد مشروع القانون في الحكومة ولجنة المال والموازنة (راجع المدن).
لكن بمعزل عن المقاربات الماليّة التي يقوم الجميع بجلدها اليوم، يبدو أن لجنة المال والموازنة والحكومة ساهمتا بتمرير سلّة من الشوائب والمخالفات الدستوريّة الكبيرة، من ضمن مشروع قانون الموازنة، وهو ما لم يتم الإضاءة عليه في نقاشات المجلس النيابي بعد. مع الإشارة إلى أنّ العديد من بنود الموازنة ستكون عرضة للطعن أمام المجلس الدستوري، بسبب هذه الثغرات، وهذا تحديدًا ما يفسّر ابتعاد معظم المزايدين عن التصويب على هذه الثغرات الدستوريّة الخطيرة. ففي النتيجة، هذه موازنة يريدها الجميع في السرّ، وينتقدها الجميع في العلن، وهو ما يدفع النوّاب للانتقادها بعناوين فضفاضة، من دون استهدافها بالقنابل التي يمكن أن تفجرها فعلًا.
فرسان الموازنة: المخالفة الدستوريّة التي تحبّها الحكومات
أهم المخالفات الدستوريّة التي يحتويها اليوم مشروع الموازنة، يكمن في ما بات يُعرف بفرسان الموازنة، أي بعض التشريعات التي لا ترتبط بتحديد سقوف الإنفاق أو إجازة الجباية، والتي يتم تمريرها من ضمن مشروع قانون الموازنة، لتفادي طرحها بتشريعات منفصلة. بمعنى أوضح، نحن نتحدّث هنا عن إجراءات لا تندرج من ضمن الوظائف التقليديّة للموازنة، ولا يوجد سبب صريح لطرحها على هذا النحو، ما يجعل من هذه البنود نوعًا من التحايل، لمحاولة تحميل الموازنة كصك تشريعي ما لا يُفترض أن تتحمّله.
مشروع قانون موازنة 2022 يمتلئ بهذا النوع من المخالفات الدستوريّة الفجّة: من البنود المرتبطة بتنظيم إجراءات التقاعد المبكر، إلى تنظيم عمليّة إحصاء موجودات الدولة العقاريّة وغير العقاريّة، وصولًا إلى البنود التي تعدّل من مهل الاعتراض على الضرائب، وتلك التي تستحدث آليّات لتأجير عقارات الدولة. ومن الناحية العمليّة، تحبّذ الحكومات عادةً اللجوء إلى هذه المخالفة الدستوريّة، التي تسمح بوضع تنظيمات جديدة بشكل سلس، من دون الاضطرار لتبريرها وتحديد الأسباب الموجبة لها بشكل واضح في مرسوم مشروع قانون، ومن دون الاضطرار لمناقشتها وإقناع المجلس النيابي بالتصويت عليها كتشريعات منفصلة وخاصّة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ المجلس الدستوري أصدر العديد من القرارات في الماضي التي أصرّت على عدم دستوريّة هذا النوع من البنود في الموازنات العامّة، ما سيفتح الباب أمام إبطال هذه المواد إذا تم الطعن بها.
قرارات لعدّة سنوات مقبلة
في العادة، من المفترض أن تقتصر مفاعيل الموازنة على تشريع إجازة الجباية وسقوف الإنفاق لمدّة سنة واحدة، هي السنة المشمولة في مشروع قانون الموازنة، مع إمكانيّة العمل بقاعدة الإثني عشريّة في حال لم يتم إقرار موازنات جديدة في السنوات اللاحقة. إلا أنّ المضي منذ البداية بتشريع إجازات خاصّة للجباية لعدّة سنوات منذ الأساس، يمثّل مخالفة صريحة لمبدأ “سنويّة الموازنة”، كما يعكس نيّة مبيّتة للتغاضي عن إقرار موازنات جديدة في الأعوام المقبلة، من خلال استباق ذلك بتشريعات تغطي هذه الأعوام.
من هذه المخالفات مثلًا: تخفيضات الرسوم الخاصّة بالسيارات الصديقة للبيئة (تمتد لثلاث سنوات)، والرسم الإضافي على السلع التي لديها بديل محلّي (يمتد لثلاث سنوات)، والرسم المقطوع المُضاف على السلع المستوردة الخاضعة للضريبة على القيمة المضافة (يمتد لغاية نهاية العام المقبل)، بالإضافة إلى إعفاء الودائع “الجديدة” من الضريبة على الفوائد (لغاية العام 2028).
تسويات استثنائيّة على الضرائب
يتضمّن مشروع قانون الموازنة بنوداً خطيرة تسمح بالتفريط بواردات الدولة الماليّة، من خلال تشريع إجراء تسويات على الضرائب المُعترض عليها من قبل الشركات. فعلى سبيل المثال، تسمح هذه البنود للمكلفين ضريبيًّا الاكتفاء بسداد نصف المتأخّرات الضريبيّة غير المسددة، والمُعترض عليها، مقابل إعفائهم من نصف المتأخرات الآخر. وهذه التشريعات التي نصّت عليها الموازنة، تتعارض مع قرارات سابقة للمجلس الدستوري، قضت بإبطال هذا النوع من التسويات لمخالفتها مبدأ العدالة الضريبيّة والمساواة بين المكلفين. فمن الناحية العمليّة، ستكون هذه الإجراءات قد أعفت بعض الممتنعين عن سداد الضريبة من نصف إلتزاماتهم، التي تخلفوا عن دفعها عند الاستحقاق، مقابل سداد الإلتزامات نفسها بالكامل من قبل جزء آخر من المكلفين، الذي التزموا بالسداد حسب القوانين. وبالإضافة إلى إشكاليّة المساواة بين المكلفين، ستشجع تسويات من هذا النوع المكلفين على التخلّف عن السداد في المستقبل، طمعًا بالمزيد من الإعفاءات الشبيهة.
ومرّة جديدة، تكون الموازنة قد تضمّنت بنوداً تنطوي على إشكاليّات دستوريّة، وإجراءات سبق أن أبطلها المجلس الدستوري، ما يكرّس مبدأ الاستخفاف بقرارات المجلس السابقة، وبدستوريّة بنود الموازنة.
ميزانيّة مطعون بها
كل ما سبق، يُضاف إلى أبرز ثغرات الموازنة الدستوريّة، وتحديدًا تلك المتعلّقة بإقرارها من دون إجراء قطع للحساب مدقق من ديوان المحاسبة، وإقرارها خارج موعدها الطبيعي. وبذلك، يكون إقرار هذه الموازنة قد طبّع الاستهتار بجميع الأصول الدستوريّة التي يفترض أن تتم مراعاتها، سواء في ما يتعلّق بالمضمون وطبيعة المواد المشمولة بالموازنة، أو تلك المتعلّقة بالشكل والمهل. كما يُضاف إلى هذه الثغرات إشكاليّة الصلاحيات التي تم إعطاؤها لوزير الماليّة، فيما يتعلّق بالتسويات الضريبيّة، وللحكومة فيما يتعلّق بالإعفاءات الضريبيّة، وهو ما من شأنه فتح أبواب الاستنسابيّة والسمسرة على حساب المال العام في المستقبل.
في خلاصة الأمر، ستكون موازنة مطعون بشرعيّة الكثير من البنود فيها، وسيكون بإمكان أي كتلة من كتل المجلس النيابي الطعن في بعض هذه البنود الإشكاليّة أمام المجلس الدستوري. لكن وبمعزل عن احتمالات حصول هذا الطعن بالفعل، واحتمالات إبطال هذه المواد من قبل المجلس الدستوري، يبقى من الأكيد أن خفّة الحكومة ولجنة المال والموازنة في مقاربة هذه الثغرات تؤكّد استهتارهما منذ البداية بملف الموازنة ودور الموازنة كأداة من أدوات النهوض الاقتصادي.