مرفأ بيروت: أيّ دور إقليميّ؟ لأيّ اقتصاد؟

أيّ مرفأ نريد؟ بأيّ دور إقليمي؟ لأيّ اقتصاد ولأيّ مجتمع؟ هذا هو السؤال الوحيد الذي لم يطرحه البنك الدولي في تقريره الصادر أخيراً بعنوان: «إصلاح وإعادة بناء قطاع الموانئ في لبنان: الدروس المستفادة من الممارسات العالمية». التقرير بسيط ويكاد يكون ساذجاً. بما يطرحه هو تطوير مرفأ بيروت وفق مبدأ الشراكة مع القطاع الخاص المشار إليه بـ«مرفأ المالك». البنك الدولي يحاول التمييز بين الخصخصة الشاملة للمرفأ، وبين السيطرة الشاملة للقطاع العام. يقدّم خيار «مرفأ المالك» كحل وسطي خارج الوظيفة الاقتصادية – الدولية التي يفترض أن يتمتع بها أي مرفأ. أصلاً، إن الهدف من تقديم برامج «الشراكة» أو التي تُسمى «PPP» هو تقديمها بهذه البساطة. كأنها تسوية ساذجة. فالمسألة ليست بهذه البساطة. لا يمكن التعامل معه خارج إطار الوظيفة الإقليمية، ولا يمكن أيضاً أن يغلب اعتبار تطويره من أجل خدمة بيروت وضواحيها، حيث يرتفع التركّز السكاني والنشاط الاقتصادي.

يجب النظر إلى مرفأ بيروت وإدارته وتشغيله انطلاقاً من دوره. كان مرفأ بيروت، أيام الاستعمار، يؤدّي دوراً مهماً بين إزمير والإسكندرية، وقد أُنشئت سكّة الحديد لربطه بالشام عبر الجبل والبقاع. هكذا كان يسهم في تشكّل المجال الإقليمي، لكنه تعرّض لأكثر من ضربة: البريطانيون «خلقوا» مرفأ حيفا في مواجهة الفرنسيين، ثم قرّرت سوريا لاحقاً، ألا تخضع لقطبية مرفأ بيروت وحده، فأسّست مرفأَي طرطوس واللاذقية وبنت شبكة مواصلات تربطهما بحلب. وفي العقود الأخيرة، تحوّلت مسارات إنتاج السلع وخطوط تصديرها فأصبحت حركة شحن البضائع عبر المتوسط، أقلّ من تلك الواردة إلى مرافئ الخليج من الصين وكوريا وسواهما. ففي ظل هذه التحوّلات الإقليمية، كيف يجب التعامل مع مرفأ بيروت؟ هل يجب التركيز على شكل إدارته لإعادة تشغيله وفق المنطق السائد في التسعينيات؟ أم يجب أن تكون إدارة المرفأ مرتبطة بالهدف من وجوده أساساً وبدوره الإقليمي والمحلي؟ لا مبرّر لعدم الأخذ بهذه الوقائع في نقاش كهذا. قد لا تكون هناك جدوى من إعمار مرفأ بيروت ليخدم تموين بيروت وضواحيها فقط. ربما الأجدى أن يكون مرفأ طرابلس مرتبطاً بخطوط التجارة الخارجية عبر حمص، وأن يكون مرفأ الزهراني مرتبطاً بخطوط التجارة عبر جنوب سوريا – الأردن، ومنافسة قناة السويس. ببساطة، المرفأ لا يجب أن يكون مكبّاً للمدينة. صحيح أنه استعاد بعضاً من أهميته الإقليمية خلال الحرب في سوريا، لكن لا يمكن تجاهل الاعتبارات المتعلقة بالدور الإقليمي. أن يكون مرفأ بيروت مرفأً رئيسياً في استقطاب السلع وتصديرها، أو يكون مرفأ ثانوياً لإعادة التوزيع عبر التجزئة. كل هذه الاعتبارات هي التي تحدّد الشكل المؤسساتي للمرفأ.

ولا يجب أن نغفل أيضاً أن المرفأ بالنسبة إلى الداخل اللبناني، ليس وحدة اقتصادية معزولة عن النشاط الاقتصادي والاجتماعي، بل هو معبر لأكثر من 70% من البضائع الواردة إلى لبنان في اتجاه مناطق التخزين والاستهلاك. المرفأ بهذا المعنى، يشبه محافظتَي بيروت وجبل لبنان في اكتظاظهما السكني وفي تركّز النشاط الاقتصادي – الصناعي والاستهلاكي والسياحي. ومرفأ بيروت أيضاً هو مقاطعات طائفية وطبقية أيضاً. قوى السلطة تملك حصصاً فيه كأنه أسهم ملكية. ومخلّصو البضائع يسيطرون على عمليات التهريب فيه انطلاقاً من انتماءاتهم الطائفية والمذهبية وعلاقاتهم مع رجال الأعمال أيضاً. لذا، فإن الأمل بتطوير المرفأ يجب أن يكون أملاً بتطوير النظام بكامله. وبالتالي فإن السؤال الصحيح: أي مرفأ نريد لأي اقتصاد؟ وأي مرفأ نريد لأي مجتمع؟

البنك الدولي، مثله مثل جهات خارجية ومحليّة لا ترى في القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية سوى أدوات لنقل الثروة وتحويلها من يد إلى أخرى. يتحجّج البنك الدولي ببيروقراطية القطاع العام، وافتقاره إلى التمويل، وخلق القيمة المضافة، لكن سعيه يندرج ضمن المافيا المؤسساتية، ولا يختلف كثيراً عن الضغوط الفرنسية التي مورست على البنك الدولي من أجل التراجع عن «تفضيل» خيار إدارة المرفأ عبر «مرفأ المالك». ورغم أن هذا الخيار هو نوع من أنواع الشراكة مع القطاع الخاص، أي أحد فروع «الخصخصة»، إلا أن وجهة نظر الإدارة الفرنسية أن تكون هناك خصخصة شاملة تتيح لإحدى الشركات المقرّبة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، السيطرة على المرفأ. هذه الشركة يمثّلها شخص لبناني كان معه على متن الطائرة الخاصة التي أقلّته إلى لبنان في زيارته الأولى بعد انفجار المرفأ. ما يريده الفرنسيون هو حصّة مباشرة في المرفأ على الطريقة اللبنانية انطلاقاً من اهتماماتهم المتعلقة بالسيطرة على المتوسط وخطوط النقل عبره. لكن البنك الدولي لا يمكنه الترويج مباشرة للفرنسيين أو لغيرهم، بل هو يروّج للفكرة. البنك الدولي مؤسّسة تعمل على أسس أيديولوجية. لا يعمل بأسلوب المافيا الاعتيادي. ربما يكون مافيا مؤسساتية – منظّمة.

أياً يكن الحال، يمثّل مرفأ بيروت، أيضاً، حقبة تثبيت سعر الليرة مقابل الدولار على سعر 1507.5 ليرات وسطياً. منذ نهاية الحرب الأهلية كان تثبيت سعر الليرة يمثّل قوّة شرائية واستهلاكية هائلة تُموّل عبر معبر أساسي هو مرفأ بيروت. ضمان تدفق السلع إلى مرفأ بيروت يغطي حاجات المقيمين المرفّهين بثبات سعر الليرة مقابل الدولار. هذه الأهمية مستجدّة مقارنة مع وجود المرفأ التاريخي، لكن التحوّلات التي طرأت على الدور الإقليمي وعلى الاقتصاد المحلي، تبرّر طرح أسئلة من نوع آخر. في المقابل، يبرّر البنك الدولي طروحاته الساذجة بهدف ضمان عدم تكرار حادثة الانفجار. بدا كأنه يحمّل مسؤولية الانفجار للإدارة الحالية. ألا يعلم البنك الدولي أن الإدارة الحالية هي بمثابة «لجنة جرد» انتقلت إليها مهام إدارة امتياز المرفأ من دون تحويله إلى مؤسسة عامة؟ وهو يعتقد أن تفضيل خيار «المرفأ المالك» الذي ينطوي على امتيازات متنوّعة تمتدّ على 30 سنة، انطلاقاً من أن خيار الخصخصة الشاملة سيثير مشاكل جوهرية. بهذا الكلام يشير البنك الدولي إلى التوزيع الطائفي للحصص التي ستنتج عن خصخصة مرفأ بيروت بشكل شامل. يفضل البنك أن تكون الإقطاعات الطائفية متسلّلة داخل هيكل الإدارة العامة بدلاً من إعلان وجودها في القطاع الخاص. الغرابة أيضاً في أسباب أخرى يقدّمها البنك الدولي لشطب فكرة «المرفأ الخاص»، إذ يقول إن هذا النموذج يخلق احتكاراً ولا يسمح للحكومات بالدفع في اتجاه استراتيجيات تناسبها ويصعب عليها التحكّم بسياسات التعرفات… لكنه لا يسبغ هذه المسألة على الامتياز الذي ستحصل عليه الشركات وفق نموذج «المرفأ المالك»! أليس الامتياز هو الطريق نفسه نحو الاحتكار الخاص؟

 

 

 

مصدرجريدة الأخبار - محمد وهبة
المادة السابقةلبنان بحاجة إلى مصارف لا «صندوقجية»
المقالة القادمةاستنزاف قدرات المستشفيات وتهافت على شراء الأوكسجين