ليس من التجنّي القول إن البرلمان اللبناني وبعد أكثر من ثلاث سنوات على اندلاع الازمة، يلعب دور «شاهد ما شفش حاجة» او شاهد زور على الأزمة المصرفية. وفي ما يتعلق بقانون اعادة هيكلة المصارف فانه قيد الدراسة في اللجان النيابية بانتظار تحديد ارقام الخسائر من قبل مصرف لبنان ووزارة المالية (كما يزعم النواب من دون ممارسة اي ضغط حقيقي للحصول على هذه الارقام). كما تغاضى النواب مؤخراً عن التفاف حكومة الرئيس نجيب ميقاتي والبنك المركزي على اقرار هذا القانون، من خلال اصدار التعميم 659 في شهر آذار الماضي والذي يعطي نفساً للمصارف لاعادة الرسملة في مدة 5 سنوات، مع امكانية ملتوية لاعادة تقييم اصولها. وكأن مصرف لبنان بذلك يوزع عليهم ارباحاً وهمية لتأمين زيادة في رأسمالهم.
لا شك في أن إعادة هيكلة القطاع المصرفي عملية شائكة وموجعة، ولا وجود لحل سحري لإنقاذ الودائع والقطاع ككل نظراً لحجم الخسائر غير المسبوق. لكن باب الحل العادل والفعال موجود، وتحوّله الى واقع وحقيقة يفترض وجود قرار سياسي لمعالجة ازمة القطاع بعيداً عن المصالح الضيقة. وهذا شرط غير متوفر، لأن الحل يمس بمصالح المنظومة السياسية والمصرفية الممسكة بزمام الامور وبتداعيات محسوبة.
لا أرقام ولا من يحزنون!!يشرح النائب ملحم خلف لـ»نداء الوطن» أن «هناك مراحل يجب ان تمر بها اعادة هيكلة المصارف. والخطوة الاساسية التي يجب الانطلاق منها هي تقييم ميزانيات المصارف. اليوم، هذه الميزانيات بالاضافة الى ميزانية مصرف لبنان غير مفهومة ولا نعرف حقيقتها ووفقا لسعر أي دولار تم احتسابها. وأضاف: «وقد تقدمت بكتب الى وزير المال الحالي يوسف الخليل لاطلاعنا على تقارير مدققة لكنه الى الآن لم يطلعنا عليها وهذا امر غير صحي».
ويؤكد انه «بعد معرفة حقيقة ميزانيات المصارف ومصرف لبنان ننتقل الى مرحلة ثانية وهي التمييز بين المصارف المفلسة وتلك المتوقفة عن الدفع وأخرى قادرة على الاستمرار. خصوصاً اننا لا نعرف قيمة ودائع هذه المصارف لدى مصرف لبنان. فهناك ارقام لا نعرف حقيقتها، ولا يمكن الحديث عن اعادة هيكلة القطاع من دونها». وعن المرحلة الثالثة يقول انها تتضمن وضع خطة للمستقبل. ويسأل هل سنقوم بدمج المصارف وتصفية بعضها وفقاً لدراسات جدية، مع اختيار المقاربة الحقيقية لاعادة دور المصارف في تمويل الاقتصاد وتطويره؟
يتحايلون ويضيعون البوصلة
يشرح الاستاذ المحاضر في قانون الضرائب والمالية العامة الدكتور كريم ضاهر لـ»نداء الوطن» أن «الاطار التقني العقلاني هو الذي يسمح بتحديد المصارف التي تحتاج الى اعادة هيكلة، وتلك التي من الضروري تصفيتها، وذلك عبر معرفة وضعية كل مصرف. وهذا ما طلبه صندوق النقد الدولي من ضمن التدابير المسبقة الواردة في الاتفاق الاولي بينه وبين لبنان في نيسان 2022. وقد حدد 4 شروط او قوانين اساسية يجب تطبيقها وهي: تعديل السرية المصرفية والكابيتال كونترول وموازنة 2022 واعادة هيكلة المصارف. بالاضافة الى التحقق من وضعية الاحتياطي بالعملات الاجنبية في مصرف لبنان، والتدقيق بوضعية 14 مصرفاً من قبل شركة دولية، للفصل لاحقاً بين المصارف القادرة على الاستمرار والايفاء بالتزاماتها سواء تجاه دائنيها أو تجاه المودعين».
يضيف: «في لبنان هناك اضاعة للبوصلة، لأن بناء نظام مصرفي سليم يقضي ان كل مصرف لا يملك الامكانيات لتسديد ما هو متوجب عليه ولا قدرة له على الاستمرار عليه الخضوع اما للتصفية او محاولة انقاذه عن طريق الدمج وبيع اسهمه واعادة الرسملة»، لافتاً الى ان «هذا الامر متاح في القوانين اللبنانية اي القانون 110/ 91 والقانون 2/67. لكن ما استجدّ بعد ازمة 2008 العالمية هو ان هناك مصارف لا يمكن تحمل تصفيتها، لما لذلك من تأثير سلبي على كافة القطاع المصرفي والقطاعات الاقتصادية، نظراً لارتباطاتها بشركات وكيانات وكون وجودها حيوياً للحركة الاقتصادية».
يوضح ضاهر أنه «تم وضع قوانين اعادة الهيكلة لتأمين أمرين. الاول تفادي وقوع ازمات مماثلة تؤثر على اقتصاد الدول، فتضطر هذه الدول للتدخل والمساعدة على غرار ما حصل في العام 2008 على حساب المكلفين الذين يدفعون الضرائب. والثاني لحماية حقوق المودعين ولا سيما الصغار مع تأمين ضمانة معينة لهم. بالاضافة الى تحديد تراتبية المسؤوليات، أي ان تبدأ المسؤولية بأصحاب المصارف ثم المساهمين واصحاب الاسهم التفضيلية واصحاب السندات وأخيراً المودعين».
ويعتبر ضاهر أن «في الآلية التي تضمنها مشروع الحكومة بنوداً جيدة ومتطورة، ولكن هناك بنود اخرى لها نتائج سيئة اذا طبقت. فمشروع القانون يعطي سلطة مطلقة واستنسابية للهيئة المصرفية العليا، وطالما أنه لم يتغير حاكم مصرف لبنان والمدعي العام المالي وممثل المؤسسة الوطنية لضمان الودائع (التي تتمثل فيها المصارف)، فان هذه الهيئة العليا تمتلك الحق باصدار قرارات لا يمكن الطعن فيها، ولا يمكن للقضاء (وفقاً لهذا المشروع) التحرك الا بحيز ضيق جداً وفي مواضيع محددة جداً وعلى دعاوى رائجة بين المصارف والمودعين على بعض القضايا التي كانت قائمة قبل الازمة».
ويرى ايضاً أن «هذا المشروع يعطي دوراً واهمية للجنة الرقابة على المصارف، لكن في حوكمتها الحالية والاشخاص الموجودين فيها لا يمكن ان توصل اللجنة للهدف المنشود. والآن يضعون سيفاً مسلطاً فوق رأس المصارف من خلال تنفيذ تدبير مسبق، اي رسملة هذه المصارف وفقاً للتعميم الذي حدده الحاكم رقم 154، اي احترام حد معين لرأس المال وعلى اساسه يتخذ القرار باعادة الهيكلة ام لا»، سائلاً «مَن المصرف الذي سيزيد رأسماله اذا لم يضمن أنه سيكمل في السوق المصرفي ويكون من ضمن المصارف التي ستعاد هيكلتها؟ كما ان في مشروع القانون تغييباً لأي مسؤولية للأخطاء الادارية بالنسبة للمدراء وأعضاء مجلس ادارة المصارف ومفوضي المراقبة. أي لا محاسبة لهم وكأن المشكلة نظامية على صعيد الدولة فقط ولا يتحملون اي مسؤولية. وفي حال تمت تصفية المصرف لأنه لا يملك قدرة الاستمرار لا تتم ملاحقتهم الا بالقضايا الجزائية، بمعنى آخر لا مسؤولية مهنية او اخلاقية تقع عليهم، أو تلك التي ينص عليها قانون التجارة بالمواد 66 و67».
ويوضح ان «مشروع القانون المقدم يتضمن اعادة هيكلة المصارف بطريقة مختلفة عما تنص عليه القوانين الدولية، لجهة بيع الاصول والنشاط والتفريق بين الاصول الجيدة والاصول السيئة وتحويل ودائع الى اسهم. وتّم اختصار هذه القواعد بتحويل ودائع الى اسهم وليلرة ودائع اخرى. والاخطر أنهم رجحوا هذا القانون على كل القوانين الاخرى، أي قانون التجارة العالمي بمواده 76 و 66، كما أنه لا يمكن الاستناد الى اي قانون آخر للدفاع عن حقوق المودعين مقابل السلطة السياسية والمصرفية. وكأن الله عفا عمّا مضى، وباستنسابية مطلقة لأن الحاكمية هي التي تقرر من يبقى من المصارف ومن يصفّى». كما يوضح أنه «لا يوجد في المشروع لجنة ادارة مؤقتة للمصارف من المودعين والمساهمين وفق ما نص عليه القانون 2 /67. وسنتصدى لهذا القانون كجمعية وكنقابة محامين من خلال تقديم مشروع قانون يأخذ بعين الاعتبار كل هذه الشوائب التي تحدثنا عنها عبر نواب التغيير».
شراء الوقت بالتعميم 659
واستدرك قائلاً: «برأيي ليس هناك اعادة هيكلة للمصارف في لبنان، وما تريده الحكومة هو اعادة هيكلة ضمنية عن طريق التعميم 659 الذي صدر منذ نحو شهرين عن مصرف لبنان، ويعطي المصارف نفساً على مدى 5 سنوات مع امكانية اعادة تقييم اصولها وكأنه بذلك يوزع عليها ارباحاً وهمية لتأمين زيادة في رأسمالهم. وتقدمت نقابة محامين بالطعن في التعميم امام مجلس شورى الدولة، وأيضاً بالتعميم الاساسي رقم 165 الصادر عن مصرف لبنان والذي يجب ربطه بالقرار 22 الصادر عن مجلس الوزراء في 18/ /4/ 2023 والمتعلق بالكابيتال كونترول لتشريع الضوابط على التحويلات والسحوبات والتمييز بين ودائع قديمة وجديدة». موضحاً أن «كل الاعتراضات التي واجهت قانون الكابيتال كونترول في مجلس النواب تحاول الحكومة والبنك المركزي تخطيها من خلال هذا القرار ليعتاد اللبنانيون عليه. وفي حال اللجوء الى القضاء، الجميع يعلم انه تحت سلطتهم من دون ان يرف لهم جفن».
ويختم: «هذا يعني اننا سنبقى في حالة «مصارف الزومبي الى حين تذويب ما تبقى من ودائع الناس الشرفاء، اما كبار المودعين المشبوهين فهم فسينتظرون الى حين تمرير قانون قدسية الودائع (المسخرة)، وبعد مرور وقت يتم رد الودائع لهؤلاء المودعين عن طريق استخدام اصول الدولة، وتنتهي اللعبة!».
عبثاً نحاول بلا قضاء عادل
يوضح المحامي راضي بطرس لـ»نداء الوطن» أن «المشاكل في لبنان تعالج وفقاً لمنطق ردات الفعل. فبعد ازمة بنك انترا تم وضع قانون 2/ 67 لمعالجة مشكلة توقف المصارف عن الدفع، وانشئت الهيئة المصرفية العليا التي تقرر وضع اليد على المصارف»، معتبراً «أننا لا نحتاج الى قانون لاعادة هيكلة المصارف في لبنان لأن القوانين الموجودة كافية. والتشريع الحاصل هو ظرفي لأن انجاز قانون لاعادة هيكلة المصارف من دون خطة اقتصادية شاملة للنهوض بالبلد، لا جدوى منه».
يضيف: «في لبنان هناك ايضاً قانون دمج المصارف الذي تم وضعه في العام 1993، والذي يمكن تطبيقه في الازمة الحالية لجهة تصفية المصارف المفلسة، ودمج المصارف المتعثرة تحت اشراف مصرف لبنان ومن دون القيام باعادة هيكلة للقطاع المصرفي. لكن للاسف الامر الذي يخططون له هو على حساب المودعين سواء باعادة هيكلة او دمج او وضع اليد».
ويشرح أن «اعادة رسملة المصارف تتم من خلال وضع مصرف لبنان يده على المصارف المتوقفة عن الدفع للمودعين، اما لاعلان افلاسها و تصفيتها أو دمجها، عندها كل المصارف الاخرى ستعمد الى الامتثال. لكن ما يحصل اليوم على صعيد المصارف هو أنهم يتعاملون مع الازمة وفقاً لذهنية الافلات من العقاب وبالشراكة مع السلطة التنفيذية او من خلال نواب تربطهم علاقات مباشرة مع المصارف». علماً بان القانون موجود والمادة 156 من قانون النقد والتسليف تفيد بأن على المصارف أن تراعي في استعمال الاموال التي تتلقاها من الجمهور، القواعد التي تؤمن صيانة هذه الحقوق».
ويشدد بطرس على أن «المادة الاهم التي لا يقاربها اي طرف من نفس القانون، تفيد بأنه لا يمكن لمصرف ما التذرع بالرقابة التي يقوم بها مصرف لبنان للتملص من المسؤوليات المدنية والجزائية، والقانون 2/ 67 يشمل مسؤولية رئيس واعضاء مجالس ادارة المصارف عبر أملاكهم الخاصة»، مشيراً الى أنه «يكفي ان تتم محاسبة مصرف واحد وتصفيته، حتى تعمد كل المصارف الى زيادة رساميلها».
ويؤكد أنه «في حال ظل القضاء اللبناني مسيطَراً عليه من قبل الطبقة السياسية، ستكون النتيجة انتاج قوانين ظرفية مثل قانون اعادة التوازن المالي الذي يميز بين ودائع مؤهلة وأخرى غير مؤهلة، وهذا أمر معيب»، لافتاً الى ان الاهم هو استعادة ثقة المودعين وهذا لا يتحقق الا عبر معاقبة المرتكبين، والا سنظل في اطار اقتصاد الكاش وهروب المستثمرين من المصارف بسبب كف يد القضاء عن المحاسبة. وللأسف الكل يسير وفقاً لتعاميم لا أحد يخرقها ولا يتحرك القضاء ضدها».
ويختم: «الباب الاول هو اعادة تفعيل القضاء، اذ لا يمكن للمستثمرين العودة الى لبنان في ظل قضاء معطل، ولا يمكن ان نتحدث عن اعادة هيكلة المصارف في ظل غياب خطة اقتصادية تعيد ثقة اللبناني بالاقتصاد والمصارف».