في لقاءاته مع ممثلي صندوق النقد الدولي، اتفق وزير المالية غازي وزني، قبل أسابيع، على تحضير لائحة بالمواضيع التي تعتقد الحكومة أنّها تحتاج فيها لمشورة «الصندوق» التقنية، وقد عبّر الأخير عن استعداده للمساعدة. هي صيغة اتُفق عليها لإبقاء الرابط بين الفريقين رغم فشل المفاوضات التي انطلقت بداية عام 2020 مع تسلّم حسّان دياب رئاسة الحكومة. صندوق النقد الدولي مُتمركز في البلد، مُتحيناً الفرصة المناسبة لتوقيع اتفاقية البرنامج معه، فيزيد لبنان إلى لائحة الدول – الضحية – التي يُطبّق فيها «سياساته الإفقارية». الاهتمام بمستقبل العلاقة مع صندوق النقد يتجدّد بعد تكليف نجيب ميقاتي تشكيل حكومة جديدة، وحصول لبنان منه، في الأسابيع المقبلة، على 860 مليون دولار من صندوق «حقوق السحب الخاصة للدول الأعضاء». وفق أي خلفية سيُحاور ميقاتي – في حال تمكّن من تأليف حكومة – المؤسسة المالية العالمية؟ على أي برنامج سيتفقان؟ وماذا سيكون تأثيره على السكّان؟
بعد سنة وتسعة أشهر من انفجار الأزمة، الأمور ازدادت سوءاً بعدما اشتدت حدّة الانهيار مالياً واقتصادياً ونقدياً، فباتت وصفة صندوق النقد الجاهزة، وبغياب حكومة تعمل بخلفية «مُجتمعية»، تُشكّل خطراً مضاعفاً. مثالٌ على ذلك هي الدولارات التي ستدخل إلى مصرف لبنان من صندوق «حقوق السحب الخاصة للدول الأعضاء». واحدة من بنود خطّة عمل الرئيس المُكلّف المُعتذر سعد الحريري كانت «استخدام قسمٍ من الـ860 مليون دولار في إعادة شراء سندات الدين بالعملات الأجنبية (اليوروبوندز) من الدائنين الأجانب، بسعر أعلى من المعروض في السوق. والانتقال بعدها إلى حلّ أزمة هذا الدين مع الدائنين المحليين، أي دفع المبلغ للمصارف ومصرف لبنان»، يقول أحد المسؤولين الماليين.
الخطورة في الفكرة التي كان أراد الحريري تطبيقها أنّه وفي لحظة حساسة من تاريخ البلد، يحصل على ما يُقارب المليار دولار أميركي… تُصرف على خدمة الدين العام والريع، عوض أن توظّف الـ860 مليون دولار لإنشاء مشاريع «بسيطة» تُخفّف من وطأة الأزمة في المدى القصير: باصات تربط بين المناطق للحدّ من الحاجة إلى البنزين، دعم المراكز الصحية بالدواء والمعدات الطبية اللازمة، تطوير معمل كهرباء… معظم المسؤولين والمعنيين في القطاعين المالي والاقتصادي، باتوا بحُكم المُسلّمين من أنّه لا مفرّ من التعاون مع صندوق النقد (حتّى المعارضين له)، شرط التفاوض معه حول الشروط الأنسب للبنان، ومنعه من تطبيق وصفته الجاهزة: أولوية معالجة العجز في ميزان المدفوعات (صافي الأموال التي دخلت لبنان وتلك التي خرجت منه) وضمان استدامة الدين العام ودفع الفوائد عليه، في مقابل ضرب القدرات المعيشية للسكان وتقديمات الدولة لهم، عبر زيادة نسبة الضريبة على القيمة المضافة وإلغاء الدعم وتقليص دور الدولة واعتماد موازنة تقشفية وإعادة هيكلة القطاع العام وتحرير سعر صرف الليرة.
تطورات الأزمة في لبنان أدّت إلى فرض «شروط صندوق النقد» من دون الاتفاق معه. تولّى مصرف لبنان قيادة عملية ضرب الليرة اللبنانية وقدرات السكان المعيشية ورفع الدعم عن أسعار السلع الرئيسية ما أدّى إلى ارتفاع ثمنها وتحرير سعر الصرف بطريقة غير علمية. لذلك ترك إدارة الملف لحكومة ميقاتي، المُمثلة للمنظومة، يعني أنّ المفاوضات مع «الصندوق» قد تؤدّي إلى تكبيد السكان فاتورة أكبر من تلك التي دفعوها حتى الآن. يقول أحد أعضاء فريق عمل ميقاتي الاقتصادي إنّ «أولويات حكومته هي استعادة الثقة، التحكّم بسعر صرف الدولار عوض تركه يتحكّم بالسوق، واتخاذ إجراءات سريعة لوقف الهدر وتأمين المواد الأساسية للسكان وإصدار البطاقة التمويلية، والبدء بتطبيق حلول قطاعية كإبرام اتفاقيات دولة – دولة لإقامة محطات إنتاج كهرباء». ماذا عن صندوق النقد؟ الانطلاق بالمفاوضات معه سيكون من الصفر لأنّ «خطة حكومة حسان دياب عبارة عن فرضيات وأرقام خاطئة ولا تملك الأسس الصحيحة». مع الإشارة إلى أنّ صندوق النقد وافق على الأرقام الواردة فيها ومقاربتها لكيفية توزيع الخسائر.
تقديرات الخسائر في مصرف لبنان والمصارف هي نقطة النزاع الأساسية. يُخبر أحد الوزراء في حكومة تصريف الأعمال أنّ المفاوضات مع صندوق النقد كان «يُعرقلها سلامة كلّما أردنا بحث خسائر القطاع المالي. فالصندوق صدّق على خسائر القطاع المصرفي المذكورة في خطة الحكومة، لا بل يعتبرها أكثر من ذلك، داعياً إلى معالجة فورية لها، فيما سلامة يعتبرها خسائر مُرحّلة، طالباً تقسيطها على سنوات». إضافةً، يطلب صندوق النقد إعادة هيكلة المصارف، ووضع ضوابط على الإقراض بالدولار لمن لا يملك دخلاً بهذه العملة. أما البند الأهم للموافقة على تحرير أي قرض: التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان. يقول الوزير إنّ سلامة «لن يسمح طيلة ولايته بإبرام اتفاقية مع الصندوق. سيمنع إجراء تدقيق في حساباته، ويريد التخلّص من خسائره عبر انهيار العملة وتعدّد أسعار الصرف، والتخلّص من الودائع في القطاع المصرفي. يعمل لتصفية الودائع بالدولار لتقليص الفارق بين الدولارات الحقيقية والدولارات الوهمية المُحتجزة عبر خلق منصات صرف: 3900 ليرة، و12 ألف ليرة».