يُكرِّر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عمليات إنعاش منصة صيرفة بإعلانه ضخ الدولارات عبرها للأفراد والمؤسسات. مساهماً بذلك في تخفيض سعر صرف الدولار في السوق بشكل مؤقَّت. وهذه العملية لا تؤتي ثمارها على مدى طويل. فمع كل تكرار، يفقد القرار قوّته وتتحرَّك الأسعار سريعاً إلى مستويات قياسية لا تنخفض تحتها مجدداً. على أن التجاوب الحذِر للمصارف مع إعلان يوم أمس، ينبىء بمرحلة أكثر صعوبة.
بيع مُعَلَّق
افتتح سلامة عام 2023 بعجزه عن تأمين الدولارات الكافية لتغطية الطلبات المقدَّمة من الأفراد والمؤسسات، بفعل قراره ضخ الدولار بسعر منصة صيرفة. فعلقت مليارات الليرات في المصارف وأعيدت لأصحابها، بعدما فقدت الكثير من قيمتها جرّاء ارتفاع سعر الدولار في السوق. وبعد نحو شهرين، يعيد سلامة التجربة، معلناً مساء أمس الأربعاء، تدخّله في السوق وبيع الدولار بسعر المنصة عند 70 ألف ليرة، وبسقف مليار ليرة للأفراد عن كل حساب مصرفي، و10 مليارات ليرة للشركات.
بدء تطبيق القرار يوم الخميس 2 آذار، اصطدم بعدم تقيُّد جميع المصارف بقرار سلامة. وتشير المعلومات إلى أن مصارف عودة، بيبلوس، بلوم، ميد، فرنسبك، لم تستقبل طلبات إيداع الليرة لشراء الدولار. أما المصارف المتعاونة، مثل الموارد، مياب MEAB وبنك بيروت والبلاد العربية BBAC والبنك اللبناني السويسري، فلا تضمن لعملائها الحصول على الدولارات بشكل سهل. وأيضاً تتقاضى بعض المصارف عمولات على عمليات التحويل في حال إتمامها، تتراوح بين 3 إلى 7 بالمئة، وهو ما حصل في المرة السابقة.
عارَضَت المصارف خطوة سلامة في المرّة السابقة، لكنها عادت والتزمت بحذَر. ففتحُ سقوف المبالغ المراد تحويلها من ليرة إلى دولار لم يناسب المصارف، لأنها تحصل على الدولار من المصرف المركزي عبر حزمات شهرية محدَّدة، ولا تستطيع تلبية جميع طلبات عملائها، ما يؤخِّر تسليم الدولارات وإعادة الليرات بالنسبة للطلبات غير المستجاب لها.
وهذه المرّة كانت المصارف بالمرصاد، فامتنع عدد كبير منها عن تلبية طلب سلامة حتى ترى كيف ستتّجه الأمور، وفق ما تقوله مصادر مصرفية لـ”المدن”. والاتجاه المقصود يتعلَّق بحجم الكتلة الدولارية المفرَج عنها وبتعقيدات إدارية تتكبّدها المصارف، مثل طلب المركزي الكثير من المستندات التي يجب على الزبون إبرازها، في حين أوضحت المصارف أنها لا تملك عدداً كبيراً من الموظفين، ولا الوقت الكافي لتلبية كل الطلبات وفق شروط المركزي. فضلاً عن أمور أخرى تتّصل بأزمة القطاع المصرفي وعلاقته مع القضاء ولجوئه للإضراب، فالمصارف لا تريد توسيع علاقتها مع الأفراد والمؤسسات وقد تضطر لإقفال أبوابها فجأة.
لعبة مملّة
أصبحت وسيلة سلامة للحدِّ من تسارع ارتفاع الدولار، مملة. ففي العام 2021 لجأ سلامة لتنشيط منصة صيرفة كلّما تسارع ارتفاع دولار السوق. وفي العام 2022 شَهَرَ منصّته في وجه الدولار ثلاث مرّات، سقطت آخرها في الضربة القاضية وأسَّسَت لعدم تجاوب المصارف حالياً.
وفَتَحَ سلامة في كانون الثاني 2022، جعبته لحصول المصارف على الدولارات لبيعها للناس “من دون سقف”. وسرعان ما هدأت اللعبة ولم يحصل المواطنون على مرادهم كما ينبغي. فعاد سعر صرف الدولار للارتفاع حتّى جدَّدَ الحاكم قراره في أيار من العام نفسه، مؤكّداً هذه المرّة على تلبية جميع الطلبات. فارتفع حجم التداول على المنصة إلى 196 مليون دولار، لكنه هوى في أقل من شهر إلى نحو 20 مليون دولار. علماً أن معدّل التداول اليومي الذي يعلنه المركزي، يتراوح بين 20 و40 مليون دولار.
استمرّ الوضع على ما هو عليه، حتى نهاية العام 2022 حين أعلن الحاكم بيع الدولار على المنصة “من دون حدود. وحتى إشعار آخر”. والقرار وَلِدَ ميتاً، فخلال أقل من شهر، أعلنت المصارف وقف استقبال الطلبات، واستبقت ذلك بحصر المبالغ المقدَّمة بـ100 مليون ليرة، واحتُجِزَت مليارات الدولارات قبل الإفراج عنها بعد خسارة قيمتها مع ارتفاع دولار السوق وتوسُّع هامش السعر بين الفترة التي وُضِعَت خلالها المبالغ في المصارف، والفترة التي أُعيدَت فيها إلى أصحابها بالليرة. واشتكى الكثير من العملاء استنسابية المصارف في قبول الطلبات وتحديد سقوف المبالغ المالية.
الواضح راهناً أن إقبال الزبائن على رهن بين مليار إلى 10 مليارات ليرة، سيتقلَّص، ومعه قبول المصارف المشاركة بهذه اللعبة. على أن السؤال الثابت هو متى سيعود الدولار للارتفاع؟ وبالتوازي، مَن سيكشف عن حجم الدولارات الموزَّعة لكل مصرف، وعن حجم الطلبات المقبولة وهوية أصحابها؟ وعليه، تبقى أرقام الدولار المفرج عنها عبر صيرفة بلا مصداقية. والتجربة تؤكّد عودة دولار السوق للارتفاع ليعاود المركزي سحب الدولارات ثم ضخّها إلى أجل غير مسمّى. لكن من حيث يدري الحاكم أو لا يدري، فهو يساهم بالمضاربة على الليرة وزيادة القلق في السوق.