“مصرف لبنان” إنتهك… وينتهك يومياً قانون النقد والتسليف

كثُرت في الآونة الأخيرة الاستشهادات بـ”قانون النقد والتسليف” لتبرير أو إدانة الممارسات المصرفية والنظام النقدي. فعلى هذا القانون ارتكز حاكم المصرف المركزي لتبرير إجراءاته الكثيرة، ولا سيما منها ليلرة الودائع الدولارية، إنطلاقاً من إعلاء القانون للقوة الابرائية للعملة الوطنية. كما بنيت على مواد هذا القانون عشرات التعاميم التي كرست الانهيار، وشرعت السطو على الودائع، وجهّلت المرتكبين للجرائم المالية بحق مئات آلاف اللبنانيين الأجانب. باختصار إنه الدرع الفولاذي الذي استطاع الحاكم بالتآمر مع السلطة السياسية تطويعه لخدمة مصالحهما. ساعده على ذلك ما يتيحه القانون من تجميع كبير للصلاحيات بين يديه، مدعّمة بالسرية المصرفية.

نشأة القانون

في الاول من آب عام 1963 صدر قانون النقد والتسليف بمرسوم. فالحكومة التي أحالت آنذاك مشروع القانون المعجل المتعلق بالنقد والتسليف على مجلس النواب، بموجب المرسوم رقم 12825 تاريخ 21 ايار 1963، لم تلقَ أي رد. وبعد انقضاء أكثر من أربعين يوماً على إحالة “المشروع” على مجلس النواب دون أن يبت به، أصدر رئيس الجمهورية اللواء فؤاد شهاب بناء على الدستور اللبناني، لا سيما المادة 58 منه، وبناء على اقتراح وزير المالية، وبعد موافقة مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة بتاريخ 24/7/1963، قانون النقد والتسليف بالمرسوم رقم 13513.

إستغلال الثغرات

يعتبر هذا القانون الركيزة الأساسية للجهاز المصرفي والمالي. فهو يرعى تنظيم النقد ودور المصرف المركزي وعملياته، وينظّم عمل المصارف إضافة الى المهن التابعة للمهنة المصرفية. يتألف القانون من 6 أبواب تتضمن 230 مادة، تتعلق بـ: النقد، المصرف المركزي، التنظيم المصرفي، العقوبات، الأحكام الانتقالية وأحكام مختلفة ونهائية. إلا أنه كالكثير من القوانين يتضمن ثغرات تسمح بالاستنسابية في التطبيق، ويعاني من تقادم بعض مواده، وعدم تماشيها مع الظروف الراهنة نتيجة التطورات الداخلية والخارجية على حد سواء. من هذه المواد مثلاً (المادة 2)، التي نصت على أن القانون يحدد قيمة الليرة اللبنانية بالذهب الخالص. فبحسب المحامي أنطوان مرعب “وُضعت هذه المواد آنذاك للتماشي مع اتفاقية “بريتون وودز” Bretton Woods التي ربطت سعر صرف الدولار وبقية العملات بالذهب”. ومع انتهاء العمل بهذه الاتفاقية قبيل منتصف سبعينيات القرن الماضي توجب على المشرّع تعديلها، فكانت المادة 229 التي أتت لتحل مكان المادة 2 مؤقتاً ريثما يصدر المشرع قانوناً يحدد بموجبه نظاماً حراً للصرف غير مقيد بالذهب أو الدولار، انما بحسب سعر السوق الحر ولم تتغير بعد. ولعل هذا ما قد يكون أحوج اليه لبنان في ظل أزمة تعدد أسعار الصرف، وما تسببه من مشاكل وانهيارات في قيمة الليرة. وهو إجراء إصلاحي بامتياز مطلوب لتقديم المساعدة للبنان. كما “يجب تعديل كل المواد التي تسمح للحاكم التحكم بسوق الصرف”، برأي مرعب. و”لعل ابتكار الحاكم رياض سلامة لـ”المنصة – sayrafa” التي يحدد سعر الصرف عليها كما يرتئي بعيداً عن أي قانون أو منطق أو شفافية، واختراعه أسعار صرف محددة لبعض الفئات من المودعين والموظفين، وآخرها احتساب رواتب القضاة على سعر 8000 ليرة… هما بمثابة جرس الانذار لخطورة استغلال الحاكم لبعض المواد لتدخّله الفوضوي وغير القانوني في سعر الصرف.

التحجّج بالقوانين لليلرة الودائع

من المواد التي تحتاج إلى تفسير وتطبيق صحيح هي المادة 301 من قانون الموجبات والعقود (عندما يكون الدين مبلغاً من النقود، يجب إيفاؤه بالعملة الوطنية) التي يتذرّع بها الحاكم لتسديد الودائع الدولارية بالليرة، مستنداً إلى القوة الابرائية لليرة الواردة في المادة (7) من قانون والتسليف. لكن ما يغفله هو أن كل الاحكام التي تصدر لايفاء الدين بالعملة الاجنبية تتضمن موجب التسديد بسعر الصرف اليومي والحقيقي وليس وفقاً لاسعار مخترعة”، بحسب مرعب.

إمساك بالصلاحيات

هذا على الصعيد النقدي، أما على صعيد المصرف المركزي بحد ذاته، فهناك الكثير من المواد التي تحتاج إلى تعديل برأي مرعب. وتتعلق بتخفيف صلاحيات الحاكم وجمعه بالاضافة إلى الحاكمية الاشراف على لجنة الرقابة على المصارف والمحكمة المصرفية العليا وهيئة الاسواق المالية. و”لنبدأ بالمادة 17 التي عدلت في العام 1985، وأضافت على المجلس المركزي نائبين جديدين للحاكم، بحيث أصبح عدد نواب الحاكم الذين يشكلون المجلس 4 نواب، فقط من أجل إرضاء الطوائف وزعمائها السياسيين. فتحول المجلس المركزي إلى مجلس مصغر لمجلس الوزراء”، من وجهة نظر مرعب. و”بالتالي فان المطلوب تخفيض عدد النواب والعودة إلى ما كان عليه الوضع سابقاً. الامر الذي يساعد على تعزيز الاستقلالية واتخاذ القرارات بشكل موضوعي، بما يتلاءم مع المصلحة العامة. وعدم السماح تفصيل بعض الاجراءات على قياس الاقلية السلطوية.

خطوات لا بد منها

ومن الخطوات الواجب اتخاذها فوراً:

– “التشديد على منع مصرف لبنان من التدخل بسوق القطع لفترات طويلة، وبعد أن يكون قد راكم احتياطياً فعلياً. وليس كما درج حاكم المركزي على اعتبار أموال المودعين هي الاحتياطي”، كما يؤكد مرعب. وهذه الخطوة يجب أن تتبع مباشرة تحرير سعر الصرف بشكل أن يتحدد سعر الليرة وفقاً للعرض والطلب في سوق البورصة. ذلك أن تدخل “المركزي” في القطع لم يجرّ على البلد إلا الويلات.

– فصل هيئة الاسواق المالية عن حاكمية مصرف لبنان. إذ لا يوجد بلد في العالم يترأس فيه حاكم المصرف المركزي هيئة الاسواق المالية، كما في لبنان.

أصل المشكلة

من المواد الواجب تعديلها هي المادة 81 التي تنص على أنه يحق لـ”المركزي” أن “يحسم ويعيد حسم ويشتري ويبيع سندات تجارية ووسائل دفع واموالاً تحت الطلب محررة بعملات أجنبية؛ على أن لا تتعدى مهلة استحقاق السندات ستة اشهر”. في حين توسع “المركزي” في شراء السندات التي تصدرها الدولة، وتلك التي تصدرها المصارف بالنقد الصعب ولآجال تتخطى الستة أشهر. وبحسب مرعب “يجب التشديد على عدم جواز أخذ “المركزي” لودائع من المصارف، خصوصاً بالدولار. وهذه المادة إن كانت مدرجة في القانون إلا أن الحاكم لم يعرها أي اهتمام، بل على العكس أمعن في خرقها من خلال إصدار تعاميم منذ التسعينيات تحض المصارف بالترغيب بأسعار الفائدة المرتفعة، أو الترهيب لوضع الودائع لديه. ففي حين تنص المادة 98 من قانون النقد والتسليف على أن “المصرف (المركزي) يفتح حسابات ودائع اموال للمصارف وللمؤسسات المالية، لا تنتج هذه الحسابات فوائد”، استغل الحاكم برأي مرعب فقرة في المادة 75 وتذرّع بالابقاء على الالتزام بين السيولة وبين حجم التسليف لاستقطاب الودائع ودفع الفوائد. مع العلم أن هذا كان الاستثناء في القانون وليس الأصل لكي يستطيع “المركزي” ان يحافظ على التوازن بين حجم السيولة والتسليفات”. أكثر من ذلك فان المادة 154 تجبر المصارف أن تبقي على التوافق بين مدة التوظيفات ومدة التسليفات. وهذا ما لم يحترم حيث وظفت ودائع المواطنين لفترات طويلة تراوحت بين 3 و6 سنوات، في حين أن الودائع هي لآجال قصيرة. وهذا هو مكمن وجوهر المصيبة”، برأي مرعب.

مخالفة إقراض الدولة

هذا لناحية المواد التي تحتاج إلى تعديل في نظام المصرف المركزي، أما المواد التي تحتاج إلى تطبيق سليم، فهي على سبيل المثال: المادة 90 التي تشير صراحة إلى أنه “باستثناء تسهيلات الصندوق المنصوص عليها بالمادتين 88 و89، فالمبدأ ألا يمنح المصرف المركزي قروضاً للقطاع العام”. هذه المادة ضربت بعرض الحائط وجرى تجاوزها مراراً وتكراراً بحجة أن المادة التي تليها مباشرة، أي المادة 91 تنص على أنه “في ظروف إستثنائية الخطورة أو في حالات الضرورة القصوى، اذا ما ارتأت الحكومة الاستقراض من المصرف المركزي، تحيط حاكم المصرف علماً بذلك (…) وفقط في الحالة التي يثبت فيها أنه لا يوجد أي حل آخر، واذا ما اصرت الحكومة، مع ذلك، على طلبها، يمكن للمصرف المركزي أن يمنح القرض المطلوب”. وعلى هذا المنوال تحولت هذه الآلية الاستثنائية، بحسب مرعب، إلى عملية “استقراض مفتوحة ومتواصلة. موّل “المركزي” من خلالها “هدر” الحكومة المزمن بالليرة وبالدولار، ومن دون أن يتم الرجوع إلى المجلس النيابي الذي يعطي الكلمة الاخيرة كما تقتضي الاصول”. وقد أنفق مصرف لبنان في السنوات الماضية بحسب شركة “لازارد” 44 مليار دولار من أجل الدفاع عن تثبيت سعر صرف العملة عند هامش 1515 الذي جرى “اختراعه” في التسعينيات. كما شكل إقراض الدولة مخالفة دستورية أيضاً، بحسب مرعب. إذ تحذر المادة 82 من الدستور على الدولة أن تستدين أو ترتب أي التزام أو أعباء على الخزينة إلا بموجب قانون. وهذا ما لم يكن يحصل.

إذاً، بعض المواد يحتاج إلى تعديل والبعض الآخر إلى توضيح، والاهم التطبيق بشكل شفاف وتبعاً لوسائل الحوكمة الرشيدة. ومن الامور التي تثير الدهشة والاستغراب في آن معاً، بحسب مرعب، هي “طلب مصرف لبنان تشكيل احتياطيات بالنقد الصعب بما يخالف قانون النقد والتسليف ومن دون أي مسوغ قانوني. وبغض النظر عن تصرفه بهذه الاحتياطيات وتخفيضها مؤخراً إلى 14% بدلاً من 15%، فهو يطلب اليوم إقرار قانون لتخفيض نسبة الاحتياطي الالزامي بما يتيح له التصرف بشكل قانوني بما تبقى من ودائع. مع العلم أن احتياطي العملات الاجنبية سالب منذ العام 2015 بحسب صندوق النقد الدولي، ولا يملك مصرف لبنان اليوم أي احتياطي بالنقد الصعب”.‏

طار النصولي لأنه اعترض

التداخل في الصلاحيات بين حاكمية البنك المركزي وهيئة الاسواق المالية لم يكن وارداً في أساس قانون الهيئة. وقد أضيف بالتوافق بين السلطة التنفيذية آنذاك وحاكم «المركزي». ويسرد مرعب هنا قصة للتاريخ وهي أنه «عندما كُلّف إعداد قانون هيئة الاسواق المالية مع كل من الدكتور غالب محمصاني، وعميد كلية الحقوق المرحوم ريشار شمالي، وضعوا ممثلاً عن مصرف لبنان في مجلس إدارة هيئة الاسواق. وهو ما أستوجب لفت نظرهم من قبل النائب الثاني للحاكم مروان نصولي، عن خطورة تشريع أي تداخل بين «المركزي» وهيئة الاسواق المالية. فكانت النتيجة عدم التجديد لنصولي مرة جديدة في نيابة الحاكم، وترؤس الأخير لهيئة الاسواق المالية».

مصدرنداء الوطن - خالد أبو شقرا
المادة السابقةفتحُ باب الاستثمار أمام اللبنانيين في زيمبابوي
المقالة القادمةالتهديد بقانون 67/2 يقضّ مضاجع أصحاب المصارف