مصير الحاكميّة الغامض: لعبة عض أصابع

يوم فقط يفصل اللبنانيين عن نهاية ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وحتّى هذه اللحظة مازالت المكائد السياسيّة سيّدة الموقف، في لعبة عض أصابع لن تنتهي إلّا في الساعات الأخيرة. المصادر المتابعة للملف تؤكّد أن رئاسة مجلس النوّاب لم تأذن حتّى اللحظة للنائب الأوّل للحاكم وسيم منصوري بممارسة صلاحيّات الحاكم، بعد رحيل سلامة، في حال عدم تعيين خلف للحاكم، كما ينص قانون النقد والتسليف. بل وتشير المصادر إلى أنّ عين التينة ما زالت ترفع من سقف مطالبها للقبول بتسليم منصوري صلاحيّات الحاكم، بهدف تعجيز الأفرقاء الآخرين، في مقابل التلويح باستقالة منصوري في مؤتمره الصحفي يوم الإثنين المقبل، عند الساعة 11 صباحًا.

في المقابل، ثمّة تقاطع واضح ما بين حزب الله والتيار الوطني الحر وتيّار المردة في ملف الحاكميّة، حيث يحول الأطراف الثلاثة حتّى اللحظة دون التوافق على فكرة تعيين حاكم جديد للمصرف. ويبدو من الواضح أنّ هذا التقاطع بات مرتبطًا بالسلة الشاملة التي يتم التفاوض عليها، والتي ستكون هويّة الحاكم الجديد أحد أبرز بنودها. من هذه الزاوية بالتحديد، يمكن فهم مناورات عين التينة في هذا الملف، والتي ضغطت خلال الأسبوع الماضي باتجاه تعيين حاكم جديد في ولاية كاملة قبل يوم الإثنين المقبل. باختصار، باتت الحاكميّة خاضعة لمناورات سياسيّة بالدرجة الأولى، بعيدًا عن كل الاعتبارات النقديّة والماليّة التي تم الحديث عنها سابقًا.

مطالب عين التينة: تطفّل تشريعي

في اجتماعاته مع نوّاب الحاكم، خلص رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إلى أنّ الطريق لتقديم الضمانات لنوّاب الحاكم، من أجل تحمّل مسؤوليّاتهم بعد يوم الإثنين، يمر بتمرير تشريع في المجلس النيابي، لتغطية الإنفاق من احتياطات المصارف الإلزاميّة المودعة في مصرف لبنان.

وإذا لم يتم تقديم وعود واضحة بتمرير هذا التشريع الضروري، فقد تكون النتيجة إصرار رئاسة مجلس النوّاب على استقالة نائب الحاكم الأوّل يوم الإثنين المقبل، ما سيعني حصول شغور في منصب الحاكميّة، بغياب النائب الأوّل الذي يفترض أن يتولّى صلاحيّات الحاكم بعد انتهاء ولايته. مع الإشارة إلى أنّ برّي طلب التزام نوّاب لبنان القوي بالحضور والتصويت على هذا التشريع في المجلس النيابي، بهدف إشراك الجميع في “دم الاحتياطات” التي سيتم الإنفاق منها خلال المرحلة المقبلة.

من الناحية القانونيّة البحت، ما يطلبه برّي ليس سوى “تطفّل تشريعي” على مسألة هي من صلاحيّات المجلس المركزي لمصرف لبنان وحده، أي الحاكم أو من سينوب عنه، ونوّابه ومدير عام وزارة الاقتصاد (منصب مدير عام الماليّة، الذي يفترض أن ينضم إلى المجلس، مازال شاغرًا). فقانون النقد والتسليف لا ينص على احتياطات إلزاميّة إلّا بالعملة المحليّة، ما يعني أنّ ما فرضه حاكم مصرف لبنان سابقًا من توظيفات بالعملة الأجنبيّة لا يمثّل اليوم سوى إيداعات طُلب من المصارف الاحتفاظ بها في المصرف المركزي، بموجب تعاميم وإجراءات تنظيميّة، وليس قوانين وتشريعات أقرّها المجلس النيابي.

وبهذا المعنى، يمتلك الحاكم –أو من ينوب عنه- صلاحيّة تعديل نسبة أو قيمة هذه الاحتياطات، كجزء من السياسة النقديّة التي يقرّها المجلس المركزي، تمامًا كما فعل حاكم مصرف لبنان مؤخرًا بالفعل، من دون أي حاجة لتشريع أو قانون في المجلس النيابي. وحتّى بالنسبة إلى الاحتياطات الإلزاميّة بالليرة اللبنانيّة، التي نص عليها قانون النقد والتسليف، فالحاكم يملك القدرة على تعديل هذه النسبة بشكل استنسابي، إذ لا ينص القانون على نسبة محددة من الاحتياطات الإلزاميّة، التي يفترض الاحتفاظ بها في مصرف لبنان.

لكل هذه الأسباب، يمكن القول أن شروط عين التينة والنائب الأوّل للحاكم باتت لزوم ما لا يلزم، من الزاوية التشريعيّة البحتة، ما يفرض تحليل ما يجري من زاوية سياسيّة لا قانونيّة. وهذا تحديدًا ما يدفع البعض إلى طرح احتمالين بالنسبة لهذه الشروط: فإمّا أنّ عين التينة تسعى إلى إشراك جميع الأطراف السياسيّة في المسؤوليّة عن مآلات الوضع النقدي بعد رحيل سلامة، وهو ما يشيعه بالفعل المقرّبون من عين التينة. وإمّا أن برّي يدرك استحالة تأمين التوافق السياسي على تشريع من هذا النوع، ما يدفع لطرح هذا الشرط “التعجيزي” بهدف التملّص من تسليم صلاحيّات الحاكم لنائبه الأوّل، ومن ثم فرض تعيين حاكم جديد خلال الفترة المقبلة، ما يسحب ورقة الحاكميّة من “السلّة” التي يفاوض عليها رئيس التيّار الوطني الحر جبران باسيل.

باسيل يناور بورقة المدير المؤقّت

في مقابل مناورات عين التينة، يناور رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل للحؤول دون استعمال ورقة استقالة نائب الحاكم الأوّل للضغط عليه، وذلك من خلال تحضير مراجعة في وزارة العدل للطلب من القضاء الإداري تعيين مدير مؤقّت لمصرف لبنان، في حال استقالة النائب الأوّل للحاكم يوم الإثنين المقبل.

وبهذا الشكل، يحرص باسيل على وجود “خطّة ب”، تؤمّن له مخرجًا يجنّبه الاضطرار للموافقة على تعيين حاكم جديد في ولاية كاملة خلال الأيّام المقبلة، في حال فرض الشغور في منصب الحاكميّة. مع العلم أن “الخطّة أ” بالنسبة لباسيل وحزب الله وفرنجيّة، تبقى حتّى اللحظة إلتزام النائب الأوّل للحاكم بممارسة صلاحيّات الحاكم بعد يوم الإثنين، كما ينص قانون النقد والتسليف.

أمام هذا المشهد، يبدو مصير الحاكميّة خلال الأيام القليلة غامضًا إلى حد بعيد، كما يبدو غامضًا –وبالقدر نفسه- مصير السياسة النقديّة التي سينتهجها المصرف المركزي خلال المرحلة المقبلة، وطبيعة الإجراءات التي ستحدد قيمة العملة المحليّة على المدى المتوسّط والبعيد. المشكلة الأساسيّة، هي أن جميع القوى السياسيّة تشتري الوقت حاليًا على إيقاع المكائد المتبادلة، بعيدًا عن كل الأولويّات النقديّة والماليّة، وبعيدًا عن الحسابات المرتبطة بمستقبل الوضعين المالي والنقدي. وفي جميع الحالات، يبقى من الأكيد أن المؤتمر الصحفي الذي سيعقده نائب الحاكم الأوّل وسيم منصوري، يوم الإثنين المقبل، سيمثّل لحظة مفصليّة ستكشف الكثير، بخصوص طبيعة المرحلة التي سنتجه إليها لاحقًا.

 

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةصناعة المجوهرات بلبنان قطاع مزدهر.. وإقبال على الذهب للإدخار
المقالة القادمةدولار السوق لا يكفي التجار:المضاربون ينشطون ويترقبون