موازنة بري وميقاتي … تتمة المسرحية اليوم

كانت «رهيبة» الطريقة التي قاطع فيها رئيس مجلس النواب نبيه بري وزير المال يوسف خليل، في جلسة 16 أيلول الحالي التي خصصت لموازنة 2022. ففي اثناء حديث خليل على المنصة، أراد بري، ونفذ سريعاً، إسكاته بإيقافه عن إكمال تلاوة ورقته، داعياً رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الى اعتلاء المنصة للحديث نيابة عنه! وهكذا كان، مع حسرة في عيني وصوت و»مشية» خليل الى مقعده مقهوراً.

إهانة وانتهاك واضح لمبدأ فصل السلطات

اعتبر البعض ما حصل إهانة للوزير، إلا ان الأمر الناهي يتعدى خليل إلى المجلس النيابي برمته، ومن ورائه من انتخب النواب ومن لم ينتخبهم، وكل من أراد الاستماع الى رأي وزارة المال بالموازنة، ورد الوزير على ملاحظات واستفسارات النواب. ولعل في الأمر انتهاكاً واضحاً لمبدأ فصل السلطات تحت مرأى ومسمع ورضى، وربما تواطؤ، رئيس الحكومة نجيب ميقاتي.

نواب شهود زور… إلى متى؟!

نواب ضحكوا وآخرون صفقوا كأنهم في مشهد هزلي تواطئي، وآخرون لاذوا بصمت القبور أمام هذا المشهد الطاغي على حضورهم الضعيف وقدراتهم الهزيلة. لم يعترض نائب واحد بأعلى صوته طالباً إكمال الاستماع للوزير خليل، خصوصاً الذين وجهوا اسئلة كان خليل أدرج أجوبتها في كلمته المجهضة قسراً. لاحقاً، سقط التصويت على الموازنة بخروج عدد كبير النواب (لأسباب لا تتصل بما حصل مع خليل) ، ففقد النصاب وتأجلت الجلسة إلى اليوم. ما اثار غضب بري (بلسان نواب من كتلته) المتوعد بإقرار ما يريد اقراره بالاتفاق مع ميقاتي في جلسة اليوم.

زيادة الرواتب من دون إصلاح ضريبي حقيقي

هذه الجلسة يريدها، اكثر ما يريدها، الرئيسان بري وميقاتي بالاضافة الى «حزب الله» وآخرين في فلك الثلاثي المذكور. ذلك لجملة اهداف ابرزها زيادة رواتب القطاع العام 3 اضعاف من دون بذل أي جهد او تركيز على أي اصلاح ضريبي حقيقي سوى زيادة الدولار الجمركي من 1500 ليرة الى 12 أو 15 الفاًَ، ضاربين عرض الحائط اي ربط وثيق للموازنة بالخطة الاصلاحية التي التزمت بها الحكومة امام صندوق النقد الدولي. هذا رغم «أحاديث» الرئيس بري، في أكثر من مناسبة، عن ان الموازنة واجب تلبيتها في ورشة التشريعات المتصلة بالاتفاق مع الصندوق.

النية الإصلاحية على المحك التشكيكي منذ زمن

بيد أن النية خلاف ذلك تماماً ومنذ اشهر طويلة سابقة. لا سيما عندما أجبر بري الوزير خليل على سحب بند الدولار الجمركي من آخر جلسة حكومية عشية الانتخابات النيابية. آنذاك كان الدولار الجمركي في مشروع الموازنة عند 20 ألف ليرة وبإيرادات مبنية على هذا السعر خصوصاً لمقابلة زيادات الرواتب. طلب الرئيس بري من خليل سحب هذا البند من جلسة مجلس الوزراء، كما أن وزراء «الثنائي الشيعي» تلقوا تعليمات بالاعتراض على خطة الحكومة للتعافي التي عرضت في تلك الجلسة. أي ان النية الاصلاحية لم تكن واضحة، وما زالت غامضة حتى تاريخه.

خليل يقول كلمته… ويخرج من الخلف

سكت يوسف خليل عن اهانته في الجلسة، ولا خيار آخر أمامه طالما ان ولي نعمة تسميته لحقيبة المال هو الرئيس بري بالتوافق مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. ولكن، ولأن في شخصه تكويناً تكنوقراطياً في الأساس، أراد خليل قول ما يريد في رسالة وجهها الى المجلس النيابي.

وفي الرسالة ما قد لا يعجب بري حتماً، لجهة الاعتراض الجوهري على ما أراد رئيس المجلس تمريره في عدة بنود ابرزها زيادة الرواتب بصيغة اعتماد 3 اضعاف ما يتقاضاه العاملون في القطاع العام، مع حد ادنى 5 ملايين ليرة للمستفيد شهرياً. يجزم خليل تعذر تحديد الكلفة اذا اعتمدت عبارة «ما يتقاضاه» الفضفاضة، كلفة ضخمة جداً وغير مضبوطة وغير عادلة. ويؤكد ان انعكاسات زيادة الرواتب ستتضاعف العام المقبل من دون اي مصدر تمويلي واضح. مذكراً بأن اعتماد سعر صرف 20 الف ليرة للدولار على الضرائب والرسوم الجمركية يمكن ان يسهم في تغطية جزء (جزء فقط) من الزيادة المقترحة. هكذا يكون خليل قال كلمة أضعف الايمان، وهو العالم بتغييره قريباً بناء على رغبته الملتقية مع رغبة الرئيس بري.

تكرار تجربة جنون سلسلة الرتب والرواتب

ما سبق يستحضر «جنون» تجربة سلسلة الرتب والرواتب الكارثية الشهيرة التي اقرت ايام زير المال علي حسن خليل في 2017، وكيف تبين أنها بين أبرز اسباب الازمة التي انفجرت في خريف 2019. وفي الاطار، لا يمكن تجاوز تسريبات عن يوسف خليل (لم ينفها) مفادها امتعاضه الشديد من تدخل علي حسن خليل في كل شاردة وواردة في وزارة المال وصولاً حتى التواقيع!

اذاً، اليوم يوم آخر من أيام اللعب في مسرحية الاصلاحات المزعومة شكلاً والمفخخة مضموناً. فاذا اقرت الزيادات كما طرحت في الجلسة السابقة، واذا لم يعتمد دولار جمركي عند 20 الف ليرة على الأقل، وإذا راوحت بقية الاصلاحات مكانها، ستتجلى كارثة مالية تضاف الى تداعيات الازمة المستفحلة وتجعلها أكثر تعقيداً وكلفة، بما يسرع الانهيار الشامل وصولاً الى الارتطام الكبير في 2023 على الأرجح. مع الاشارة الى أن مدعي الخوف على الناس من الغلاء مع دولار جمركي بـ 20 الفاً او على سعر المنصة كما يطلب صندوق النقد، هم متذاكون شعبويون، ومتهربون من الاصلاح: اصلاح الجمارك وضبط عملياتها، ضبط المعابر ومكافحة التهريب، وضبط الاسواق التجارية قمعاً للغش والتحايل. فوزارتا المال والاقتصاد تؤكدان، بما لا يقبل الشك، ان دولاراً جمركيا بـ 20 الف ليرة لا يشمل مئات السلع الاساسية ولا يزيد الاسعار عموماً الا بنسبة ضئيلة جداً قياساً بالتضخم التراكمي الزائد على 1000% منذ اندلاع الازمة.

تهوين للتعمية ووعود كالفقاعات

ورب قائل من المستسهلين والمهونين ان السنة على آخرها، وما سيقر هو لثلاثة أشهر فقط! في ما يشبه التسخيف مع امعان في التعمية غير المسؤولة. اذ ان اقرار الزيادة، كما يقترحها الشعبويون غير المبالين باي حصافة مالية، ستبقى سارية في 2023 ولاحقاً. واما القول بان تعديل الدولار الجمركي صعوداً ممكن مع الموازنة الجديدة فهو مخادع ايضا اذا علمنا ان المهلة الدستورية لموازنة 2023 بدأت. والأحرى اعتماد سعر مناسب للدولار من اليوم من دون مماطلة وتسويف هرباً من حقيقة الأرقام. أما وعد زيادة الرسوم على الاملاك البحرية لمقابلة جزء من كلفة زيادة الرواتب فيبقى سمكاً في بحر، طالما هناك سياسيون واصحاب نفوذ يعارضون بقوة ومنذ عقود اي تحصيل ضريبي مجزٍ من هذه الاملاك والتعديات عليها. ولعل ما تعد به وزارة الاشغال على هذا الصعيد لا يعدو كونه فقاعة، على عادة تلك الوزارة في تضخيم أثر ما تتخذه من اجراءات (بديهية ومتأخرة) خاصة بتعديلات الرسوم لزيادة الجباية من المرافق التي تحت ادارتها، او هي الوصية عليها.

من يضمن عدم تكرار إجهاضات الإصلاح؟

في الاثناء، كان صندوق النقد الدولي ينتظر موازنة «اصلاحية» هذه السنة. فاذا بالوزير خليل يهرب ليتحدث عن موازنة «تصحيحية». ثم ينتهي المطاف بألا تكون تصحيحية ولا اصلاحية، بل عبثية بنتائج كارثية إذا اصر الرئيس بري وآخرون على مقترح زيادة الرواتب كما ارادوا تمريرها في جلسة 16 أيلول. اما موازنة 2023، والتي قد تلقى في حضن وزير جديد للمال (ياسين جابر ربما) فمن يضمن لها عدم تكرار ما حصل مع يوسف خليل؟ وقبله الوزير غازي وزني الذي اسقط له الرئيس بري في 2020 مشروع قانون الكابيتال كونترول، فكان ما كان من هروب للأموال بالمليارات وبعشوائية واستنسابية وعلى حساب بقية المودعين، لا سيما الصغار منهم الذين يواجهون الموت اليوم في اقتحامهم للمصارف للحصول على فتات دولارات قليلة لزوم طبابة أو تعليم او عيش بالحد الادنى هرباً من الجوع. كما ان الوزير السابق ياسين جابر من منظومة وزراء في حكومات سابقة أسست للأزمة. والأنكى أنه في 2020 انبرى بين المتصدين، في مجلس النواب، لأرقام الحكومة عن الخسائر المبنية على خطة لازار الاصلاحية التي حظيت بموافقة صندوق النقد. وفرح آنذاك في تفشيل مسعى حكومة حسان دياب علماً بأن المكلف اليوم بملف الاتفاق مع صندوق النقد، وهو نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي ، يقول عن خطة لازار انها كانت فرصة للبنان وضاعت. وها هو الشامي يتخبط حالياً في لملمة ليس اسباب الازمة فقط بل ما حصل بعد اندلاعها من تفويت للفرص بقدرة قادر برلماني اسقط الكابيتال كونترول ومسح بحكومة حسان دياب وخططها الاصلاحية الأرض!!

تعديل قانون السرية المصرفية أسوة سيئة جداً

وفي سياق الحديث المزعوم عن الورشة البرلمانية الخاصة بمواكبة الحكومة في اتفاقها مع صندوق النقد، يذكر اقرار تعديل قانون السرية ىالمصرفية بطريق التذاكي والتشاطر والتفخيخ. ما دفع صندوق النقد للتصدي للمراوغات البرلمانية اليائسة والمكشوفة. لا بل اتهم الصندوق مجلس النواب عموماً ولجنتي المال والموازنة والادارة والعدل (بالاسم)، بعدم القيام بما بالوجب. ويذكر، في هذا السياق، ان اللجنتين المذكورتين (بالاضافة الى الرئيس بري) تشكلان المطبخ التشريعي الاساسي الذي انتج، أو وقف متفرجاً او متحركاً بلا فعالية، على ويلات ومآس مالية وقانونية لا عد لها ولا حصر. ولا ينفع قول رئيس لجنة المال والموازنة ابراهيم كنعان ان نسبة 80% من قانون تعديل قانون السرية المصرفية صالحة وتحظى بموافقة الصندوق ومباركته. ففي هذا النوع من التشريعات تكمن الشياطين في التفاصيل الدقيقة. وهذ ما اكده الصندوق لجهة قصور تعديل قانون السرية عن استكمال شروط مكافحة الفساد، ولم يذلل كفاية عوائق الاشراف الفعال على القطاع المصرفي واعادة هيكلته، ولا يحسن كفاية ادارة الضرائب وتحديداً مكافحة التهرب الضريبي، ولا يفتح الباب واسعاً وصريحاً للتحقيق في الجرائم المالية ولا لاستعادة الاموال المختلسة!!!

أقل ما يقال في ملاحظات الصندوق انها اتهامية، لا بل خطيرة اذا علمنا ان الوقت يمر، وكل يوم هو يوم خسائر اضافية، وان لبنان يقترب من الانهيار الكبير. فهل بقي متسع من الوقت للتشاطر والتذاكي التشريعي؟ ام ان من شب على خلق شاب عليه من «الزعبرة» و»الكومبينات» منعاً لأي اصلاح حقيقي يهدد مصالح المنظومة السياسية والمصرفية؟

تكنوقراط يغطي كليبتوقراط

تبقى الاشارة الى أن الوزير يوسف خليل كما نائب رئيس مجلس الوزراء سعادة الشامي من خامة وزراء التكنوقراط التي يفترض التعويل عليها كثيرا في هذه المرحلة. لكن المكتوب مقروء من عنوانه بعد مضي نحو سنة على عملهما من دون أي انجاز يذكر. وما تفسير بقائهما في الحكومة رغم الفشل الذريع الا من زاوية تكنوقراط يغطي كليبتوقراط بدلاً من الاستقالة وقول كلمة للتاريخ الذي لن يرحم أحداً يوماً… يوماً ليس ببعيد!

مصدرنداء الوطن - منير يونس
المادة السابقةالحاج حسن من عمان: بتنا في نهاية الأزمة وسنخرج قريباً أقوياء
المقالة القادمةزيادة الرواتب عشوائياً = دمار مالي إضافي