على قاعدة “تعالوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم”، سرّبت مصادر رئيس الحكومة رسائل إيجابيّة إلى القطاع المصرفي منذ بداية الأسبوع، مفادها أن ميقاتي باشر إعادة النظر في خطته، لتضمينها حلول جديدة “تحمّل الدولة والمصرف المركزي جزءاً من مسؤوليّة إعادة أموال المودعين”، أو بمعنى أوضح: تحمّل المال العام جزءاً من كتلة الخسائر المصرفيّة. من ناحيتها، بادلت جمعيّة المصارف رئيس الحكومة التحيّة بأحسن منها، من خلال بيان مجلس إدارتها، الذي جاء تحت عنوان التأكيد على وحدة الجمعيّة واستمرارها، والذي خفّض سقف خطاب الجمعيّة المتشنّج تجاه خطّة الحكومة الماليّة والتفاهم مع صندوق النقد الدولي، وطرح مطالب أقل شراسة من تلك التي تبنتها الجمعيّة سابقًا.
بيان الجمعيّة الذي جاء بضغط من جناح “الحمائم” داخلها الرافض للخطاب التصعيدي، أكّد وجود تفاهمات مبطّنة بين هذا الجناح ورئيس الحكومة، بعد أن تبيّن وجود تشابه واضح جدًّا –إلى حد التطابق- في المعالجات والأفكار المقترحة في كل من بيان الجمعيّة وتسريبات مصادر رئيس الحكومة. بمعنى آخر: ثمّة طبخة على النار، وستأتي على شكل تسوية ستتبلور تفاصيلها النهائيّة من خلال التعديلات على الخطّة، التي سيتم الإعلان عنها قبل نهاية الأسبوع كما يعد ميقاتي، فيما ظهرت معالم التسوية منذ الآن في تسريبات ميقاتي وبيان الجمعيّة.
ميقاتي يرضخ
نص الخطّة الحالي، الذي وافقت عليه الحكومة قبل انتقالها إلى مرحلة تصريف الأعمال، كان صارمًا من ناحية الإصرار على الحد من أي مسار يمكن أن يفضي إلى استخدام الأموال العامّة في عمليّة إنقاذ المصارف. كما كان صارمًا من ناحية تحميل الرساميل المصرفيّة الشريحة الأولى من الخسائر. وهذا الإصرار، جاء مدفوعًا بشروط صندوق النقد الواضحة، والتي رفضت جميع المحاولات التي قامت بها حكومة ميقاتي سابقًا لتضمين الخطّة بنوداً يمكن أن تمسّ بالأملاك أو الموارد العامّة في سبيل إطفاء الخسائر المصرفيّة. ولهذا السبب بالتحديد، شنّت جمعيّة المصارف –بقرار أحادي من رئيسها سليم صفير- حملة شعواء على خطة حكومة ميقاتي الماليّة، فيما تجنّد الخبراء والإعلاميون المقرّبون من الجمعيّة لمحاربة الخطّة.
ربما أدرك ميقاتي أنّ سطوة جمعيّة المصارف في مجلس النوّاب، وعلى وسائل الإعلام، قادرة على الإطاحة بخطّة حكومته، إذا لم يبدد هواجس جمعيّة المصارف، وإن كانت هواجس الجمعيّة ومطالبها تتعارض مع شروط الحل التي يطلبها صندوق النقد، ومبادئ عمل أسواق المال بشكل عام. وربما كان ميقاتي يعلم أنّ تسهيل مهمّة تشكيل الحكومة الجديدة برئاسته قد يكون على المحك، إذا لم يقف عند هذه الهواجس. وأبعد من ذلك: ربما علم أن نيل بركة صندوق النقد لن يكون كافيًا، إذا لم يتمكن من تحصين هذا التفاهم بإجماع من داخل النظام السياسي، والذي تتشابك مصالحه وحساباته مع اعتبارات جمعيّة المصارف.
تعديلات الخطّة الماليّة
تتعدد الفرضيات لكن النتيجة واحدة: رضخ ميقاتي أخيرًا، وسرّب في مطلع هذا الأسبوع إلى بعض رموز جمعيّة المصارف –وهم من جناح الحمائم- تحضيره لتعديلات وازنة على الخطة الماليّة التي أعدتها حكومته، بما ينسجم مع تطلعات المصارف المطالبة بتحميل الدولة مسؤوليّتها في التعامل مع الخسائر. وتحميل الدولة مسؤوليّتها ليس سوى الإسم الحركي لتخصيص جزء من الموارد والأموال العامّة في عمليّة الإنقاذ المصرفي ومعالجة الخسائر، عبر تحميل الدولة عبء التعامل مع جزء من إلتزامات الدولة للمودعين. توجّه كهذا، يتعارض حكمًا مع أبسط مبادئ عمل الأسواق الرأسماليّة، التي تفرض تحميل المصارف –كقطاع خاص- وزر التعامل مع خسائرها، قبل البحث في أي مقترح لتحميل المال العام كلفة عمليّة الإنقاذ المصرفي. لكن ومع ذلك، تمكنت مصادر ميقاتي من تسويق هذه الفكرة كتنازل إيجابي، بعد أن تمكنت الجمعيّة –بسطوتها على الإعلام المحلّي- من شيطنة فكرة تحييد الدولة والمال العام عن مسار معالجة الخسائر المصرفيّة.
التعديلات التي يجريها رئيس الحكومة حاليًّا، تتركز على تخليص المصارف من إلتزاماتها لكبار المودعين، ومن ثم ربط الودائع الكبيرة الموجودة في كل مصرف على حدة في كيان خاص جديد (يتم البحث حاليًّا في شكل هذه الكيانات من الناحية القانونيّة). وبذلك، سيتم استحداث كيانات جديدة على عدد المصارف الموجودة في السوق حاليًّا، ليستوعب كل منها الودائع الكبيرة الموجودة في مصرف معيّن. ولاحقًا، ستلتزم الدولة تسديد دفعات سنويّة لهذه الكيانات، من خلال “قطاعات عامّة” أو “إيرادات مستقبليّة” معيّنة، من دون أن يوضح رئيس الحكومة طبيعة هذه القطاعات. ومن المرجّح هنا استهداف إيرادات قطاعيّة يُتوقّع أن تكون مربحة في المستقبل، كالاتصالات، بعد تصحيح وضع القطاع المالي، أو استخراج الغاز في حال العثور على كميات تجاريّة.
ميني-صندوق سيادي لكل مصرف
الفرق الأوّل بين هذا المقترح، الذي يعمل عليه ميقاتي، وفكرة الصندوق السيادي التي طالبت بها جمعيّة المصارف سابقًا، يكمن في تبنّي ميقاتي لفكرة إنشاء كيان محدد لامتصاص ودائع كل مصرف على حدة، بدل تأسيس صندوق سيادي واحد يترتّب عليه سداد جميع الودائع التي ستتخلّص منها المصارف (على النحو الذي طالبت به جمعيّة المصارف). أما الفرق الثاني، فهو إبقاء مؤسسات الدولة العامّة ومرافقها خارج هذه الكيانات، من ناحية الوصاية والإدارة والإشراف، بخلاف فكرة الصندوق السيادي التي طالبت من خلالها جمعيّة المصارف بتحويل الوصاية والإدارة إلى الصندوق المستحدث. لكن في جميع الحالات، وحسب مقترح ميقاتي نفسه، ستكون عوائد المرافق أو المؤسسات المستهدفة مخصصة لتسديد الودائع، تمامًا كما تريد جمعيّة المصارف.
باختصار، عدّل ميقاتي فكرة الصندوق السيادي، وحوّلها إلى ميني-صناديق تتعدد بتعدد المصارف، ويعتمد حجم ونطاق كل واحد منها بحسب حجم التزامات كل مصرف. والميني-صناديق، ستحصل على عوائد المرافق والمؤسسات العامّة، بما يحرم الدولة من هذه المداخيل، لكن من دون تحرير هذه القطاعات من سطوة الحكومة. بشكل من الأشكال، يمكن توصيف فكرة ميقاتي بجملة واحدة: رهن موارد الدولة الماليّة، بدل رهن الأصول كما طلبت المصارف سابقًا.
جمعيّة المصارف تطرح الفكرة نفسها
اجتمع مجلس إدارة جمعيّة المصارف، بعد كل الاعتراضات التي أبداها معسكر “الحمائم” داخل الجمعيّة، الرافض للتصعيد القاسي الذي قام به رئيس الجمعيّة سليم صفير خلال الفترة الماضية. وبعد أن رفضت جمعيّة المصارف في السابق الخطّة الماليّة والتفاهم مع صندوق النقد بشكل جذري، مطلقة عليهما أقسى العبارات، عاد بيان مجلس الإدارة ليشدد على أهميّة التفاهم مع صندوق النقد الدولي، بوصفه “السبيل الأفضل لإعادة هيكلة الاقتصاد”.
لكنّ أهم ما في البيان، كان انتقال الجمعيّة من الحديث عن “الصندوق السيادي”، إلى الحديث “الموارد المستقبليّة”، التي يمكن استعمالها لتغطية مسؤوليّة الدولة عن التعامل مع الخسائر. وبذلك، كان من الواضح أن الجمعيّة بادلت إيجابيّة ميقاتي اتجاهها وتنازله، بإيجابيّة موازية، من خلال خفض سقف مطالبها وتراجعها عن فكرة ضم أصول الدولة إلى صندوق سيادي مخصص لإطفاء الخسائر، مقابل المطالبة بالإيرادات المستقبليّة التي يمكن أن تؤمّنها هذه الأصول، تمامًا كما يريد ميقاتي اليوم. وهكذا، تمكّن جناح حمائم جمعيّة المصارف من دفع الجمعيّة إلى موقف وسطي يتلاقى مع موقف ميقاتي، بما يسمح بتمرير خطّة يوافق عليها رئيس الحكومة وجمعيّة المصارف معًا، على حساب المال العام والشعب اللبناني.
خطورة التسوية
تقاطع أفكار رئيس الحكومة مع بعض المساومين داخل جمعيّة المصارف، سيسمح بإعادة صياغة الخطّة الماليّة، بما يمكن أن يفضي إلى طرح خطّة جديدة متفق عليها بين الحكومة وجمعيّة المصارف، وهو ما سيسمح في المرحلة المقبلة بتمرير هذه الخطّة ومندرجتها، وإقرار التشريعات المتعلّقة بها في المجلس النيابي، من دون أي اعتراض من اللوبي المصرفي الناشط في المجلس. إلا أنّ خطّة من هذا النوع، ستحمل في طيّاتها مخاطر كبيرة، وفي طليعتها مخاطر تعثّر التفاهم المبدئي المعقود مع صندوق النقد، الذي يصر حتّى اللحظة على رفض أي مقاربة تحمّل مداخيل الدولة كلفة النهوض بالقطاع المصرفي. فحسب خبراء الصندوق، من غير المنطقي أن يراهن أحد على إمكانيّة بالاقتصاد المحلّي، مع كل ما يحتاجه ذلك من نفقات عامّة لإنعاش البنية التحتيّة وإنقاذ شبكات الحماية الاجتماعيّة، في ظل دولة مسلوبة المداخيل والموارد الماليّة، على النحو الذي يتم الحديث عنه اليوم.
في الوقت نفسه، ستعني الأفكار التي يتم تداولها اليوم حرمان الدولة اللبنانيّة من مداخيل مؤسساتها ومرافقها العامّة على مدى عقود من الزمن، في الوقت الذي ستحتاج فيه الدولة لهذه المداخيل للتعامل مع مروحة واسعة من الخسائر التي لحقت بالمجتمع نتيجة الانهيار. وفي خلاصة الأمر، من المتوقّع –نتيجة ضآلة هذه المداخيل قياسًا بحجم الخسائر- أن لا تتمكّن الدولة من سداد الودائع على النحو الموعود في طرح ميقاتي، ما يعني أن النتيجة ستكون الإجحاف بحق المودع من جهة، وعموم اللبنانيين الذين سيُحرمون من موارد دولتهم من جهة أخرى. أمّا المستفيد النهائي، فستكون المصارف التي ستتمكن أخيرًا من فرض رؤيتها على مسار توزيع الخسائر، من خلال تحميل هذه الخسائر للأموال العامّة، مقابل تحييد جزء من الرساميل عن هذا المسار.