في بداية شهر حزيران 2023، أي قبل شهرين بالضبط من نهاية ولاية حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، دخل التعميم 165 حيّز التنفيذ. تناولت الصحافة الاقتصاديّة يومها مضمون هذا التعميم، الذي مثّل محطّة مهمّة جدًا في مسار الأزمة الماليّة، غير أنّ القليل قد كتب من ذلك الوقت للبحث في آليّات تطبيق التعميم، ومدى التقدّم الذي أحرزته المصارف في هذا الشأن. التعميم سمح بكل بساطة بنشوء أنظمة دفع عبر المصرف المركزي، لإجراء التقاص بين المصارف بالدولارات النقديّة، أي الفريش. وبهذا الشكل، لم تعد المصارف مضطرّة لإجراء التحويلات عبر المصارف المراسلة في الخارج، لتبادل الدولارات الفريش بين عملائها، بل بات ذلك ممكنًا من خلال مصرف لبنان. هذه الخطوة إذًا، سمحت بتقديم خدمة جديدة: شيكات الفريش دولار.
يوم صدور التعميم، ابتهج البعض بهذا التطوّر، الذي يسمح بإعادة تنشيط عمليّات القطاع المالي الشرعي، بعيدًا عن اقتصاد النقد الورقي. وهذه أولويّة مهمّة جدًا، لمن يعرف مخاطر اقتصاد النقد الورقي على مستوى تبييض الأموال والعزلة عن العالم. وثمّة من توجّس من إمكانيّة أن تكون هذه الآليّة مخرجًا جديدًا يطبّع الوضع الراهن: ودائع فريش لها نظامها الخاص وتعاميمها ومقاصّتها، وودائع قديمة لها أزمتها وتعاميمها. وهذا الهاجس، محق ومشروع أيضًا، لمن خبُر أسلوب التملّص من الإصلاحات الجذريّة طوال السنوات الأربع الماضية، في مقابل البحث عن المخارج التي تسمح بتطبيع الأزمة والتأقلم معها. وبين أولويّة مكافحة اقتصاد النقد الورقي، وهاجس تطبيع أزمة الودائع، كان قد كُتب ما كُتب في التعميم، الذي طُبّق في المصارف ولكن بشكل متدّرج طوال النصف الثاني من العام الماضي.
شيكات الفريش دولار: البداية الخجولة في 2023
كما أشرنا سابقًا، وبعد أن أثار التعميم الكثير من الجدل في البداية، لم يأخذ موضوع مقاصّة الفريش دولار حقّه من المتابعة بعد دخول التعميم حيّز التنفيذ، وخصوصًا على مستوى تطوّر حجم تداولاته خلال الأشهر الماضية.
في بداية شهر تشرين الثاني، كانت أولى مؤشّرات تداول “الفريش دولار” بين المصارف -عبر مصرف لبنان- قد ظهرت، من خلال أرقام مقاصّة الشيكات. يومها، وفي مراجعة أوليّة قامت بها “المدن”، تبيّن أن عدد شيكات الفريش دولار المتداولة قد بلغ خلال العام 2023 (لغاية شهر أيلول) نحو 464 شيكًا، وبقيمة خجولة ناهزت الـ 2.53 مليون دولار أميركي.
حجم التداولات هذا، خلال أوّل أربعة أشهر من تطبيق التعميم، كان ضئيلًا بالتأكيد. غير أنّه عكس على الأقل نجاحًا ما على مستوى تطبيق التعميم، بعدما ساورت البعض الشكوك في مدى استعداد المصارف للتجاوب مع التعميم. وعلى أي حال، كان من المعلوم أن الكثير من تعاميم مصرف لبنان ظلّت حبرًا على ورق، إذ أصبحت المصارف أكثر جرأة –بعد العام 2019- على تحدّي التعاميم وعرقلتها. وهذا ما فرض تلمّس الجديّة في تطبيق التعميم.
في النتيجة، أظهرت البداية الخجولة عام 2023 أن النموذج سلك طريقه نحو التطبيق، وأن ما تبقّى هو توسّع القطاع الخاص باستعمال خدمة الشيكات والبطاقات المصرفيّة الفريش، بعدما باتت المصارف قادرة على إجراء التقاص في ما بينها بالدولارات الطازجة. وهذا ما حصل في بدايات العام الحالي 2024.
توسّع استعمال الشيكات الفريش
أرقام الشهر الأوّل من السنة الحاليّة أظهرت أنّ إجمالي حجم الشيكات المتداولة في القطاع المصرفي لم يتجاوز حدود 3.4 ألف شيك بالدولار الأميركي، وهو ما يمثّل رقمًا خجولًا للغاية مقارنة بمستويات ما قبل الأزمة. إذ سجّل هذا المؤشّر في الفترة المماثلة من العام 2019 أكثر من 860 ألف شيك متداول. وهذا الفارق، يلخّص ببساطة حجم التداولات الماليّة التي انتقلت إلى اقتصاد النقد الورقي، أي إلى خارج تداولات النظام المالي الشرعي.
غير أنّ أرقام الشهر الماضي عكست تطوّرًا جديدًا بالغ الأهميّة، إذ ارتفع عدد الشيكات الصادرة من الحسابات الفريش (بالعملات الأجنبيّة والليرة معًا) إلى 1245 شيكاً، منها 870 شيكاً بالعملات الأجنبيّة (وخصوصًا الدولار). أمّا حجم تداولات هذه الشيكات، فبلغ نحو 9.93 مليون دولار أميركي بالنسبة للشيكات المقوّمة بالعملات الأجنبيّة، و632 مليار ليرة لبنانيّة بالنسبة للشيكات المقوّمة بالليرة اللبنانيّة.
بطبيعة الحال، ما زال هذا الرقم محدودًا قياسًا بحجم تداولات النقد الورقي، ومقارنة بحجم التداولات المسجّل قبل حصول الأزمة. وهو ما يعني أنّ مقاصّة الفريش ما زالت بعيدة عن استعادة دور القطاع المالي في التداولات الماليّة.
غير أنّ أرقام الشهر الماضي تُظهر نموًا استثنائيًا مقارنة بأرقام الأشهر الماضية. فحجم تداولات الشيكات الفريش خلال الشهر الماضي يوازي وحده أكثر من نصف حجم التداولات التي تم تسجيلها من إصدار التعميم رقم 165، أي خلال أوّل نصف سنة من تطبيق هذا التعميم. وهذا ما يشير إلى أنّ تداولات هذه المقاصّة الجديدة بدأت بالتسارع خلال العام الراهن، بخلاف التباطؤ الذي شهدناه خلال العام الماضي.
وللتأكيد على ذلك، تكفي الإشارة إلى أنّ عدد الشيكات الفريش المتداولة خلال شهر كانون الثاني الماضي تعكس ارتفاعًا بنسبة 53%، مقارنة بالشهر السابق، كانون الأوّل. أمّا قيمة الشيكات الفريش المتداولة بالعملات الأجنبيّة خلال كانون الثاني، فتوازي وحدها نحو 70% من قيمة هذه الشيكات التي تم تداولها منذ إصدار التعميم 165. وبذلك، يمكن القول أن عملاء المصارف باتوا أكثر استعدادًا لتداول الشيكات المدولرة، رغم كل الشكوك بملاءة وسيولة القطاع المصرفي.
نتائج توسّع استعمال مقاصّة الشيكات الفريش
من الأكيد أنّ حالة التعثّر الراهنة، التي يمر بها القطاع المصرفي، لا تسمح لهذا القطاع بالعودة لاستقطاب أي ودائع طويلة الأجل بالدولار الفريش، حتّى لو تم إصدار تشريعات أو تعاميم تحمي هذه الودائع وتحيّدها عن الأزمة المصرفيّة. ففي النتيجة، يمكن لأي إجراء قانوني في الخارج أن يطال ودائع المصارف اللبنانيّة لدى المصارف المراسلة، أو توظيفات مصرف لبنان نفسه هناك، وهذا ما لن يميّز ما بين الدولارات الجديدة وتلك القديمة.
لكن في المقابل، يمكن للمؤسسات التجاريّة أن تأخذ على عاتقها بعض المخاطر، عبر الاحتفاظ بحسابات جارية محدودة القيمة بالدولارات الفريش، للتمكن من استخدام الشيكات المصرفيّة والابتعاد عن التداولات النقديّة العالية المخاطر. كما يمكن للبنانيين أن يتحمّلوا بعض المخاطر المشابهة، لاستخدام بطاقات مصرفيّة تعمل عبر المقاصّة الجديدة، للتمكن من تسديد المدفوعات بهذه البطاقات. وهذا ما يسمح للمصارف بمراكمة سيولة جديدة، يتم إيداعها لدى المصرف المركزي، كأموال جديدة متداولة عبر المقاصّة بين المصارف.
هذا المشهد، قد يسمح للمصارف باستعادة جزء يسير من أحد أدوار القطاع المصرفي: أن يوفّر أنظمة موثوقة للدفع في السوق. إلا أنّ استعادة هذا الدور ستبقى محدودة للغاية، في ظل القيود المفروضة على عمليّات المصارف اللبنانيّة في الخارج، وخصوصًا تلك المتصلة بالتسهيلات التي يتم تقديمها في العادة على هامش الاعتمادات المستنديّة. وهذه القيود، ستظل تحد من قدرة المصارف اللبنانيّة على تقديم خدمات متطوّرة في مجال تمويل التجارة الدوليّة، وهو ما تحتاجه في العادة الشركات التي تعمل في مجالي الاستيراد والتصدير.
أمّا الأهم، فهو أن المصارف ستبقى عاجزة عن أداء دور آخر أساسي من أدوار القطاع المالي، وهو القيام بوظيفة الوسيط ما بين المدخرين والمقترضين، عبر تلقّي الودائع وتقديم التسليفات. لذلك، وبانتظار إجراء إعادة الهيكلة المنتظرة للقطاع، ستبقى كل هذه الخطوات مجرّد معالجات محدودة الأثر.