نقاش محتدم حول المادّة 113 من قانون النقد والتسليف

ليس جديداً القول إن المادّة 113 من قانون النقد والتسليف هي مادة محورية في نقاش إعادة التوازن المالي والنقدي في لبنان، لجهة ردم ما تطلق عليه الطبقة السياسية ومصرف لبنان والمصارف «الفجوة المالية» التي يعاني منها القطاع المصرفي والتي تقدر بنحو 72 مليار دولار. صحيح أن هذه المادة تسبقها مواد قانونية تمهد لدورها في تنظيم العلاقة بين الدولة اللبنانية ومصرفها، وأبرزها المواد 13 (استقلالية مصرف لبنان) و90 و91 (التي تنظم منح «المركزي» قروضاً للدولة)، إلا أن أهمية المادة 113 في كل الكباش الحاصل في توزيع الخسائر بين الدولة والمصارف ومصرف لبنان، هي في أنها تظهّر (بحسب دراسات قانونية منشورة) علاقة الدولة بمصرفها على أنها علاقة «المساهم» الأوحد بالمؤسسة التي يملك كامل رأسمالها، وإذا حقق مصرف لبنان أرباحاً توجّب عليه توزيعها على «مساهمه» (الخزينة العامة) بعد إقتطاع مبالغ لاحتياط مصرف لبنان العام، ويتناول هذا التوزيع 80 بالمئة من الأرباح الصافية، وهي الأرباح المحققة بعد أن يكون المصرف قد غطّى كامل نفقاته وأعبائه والاستهلاك والمؤونات. أمّا إذا تكبّد مصرف لبنان خسائر أو عجزاً، يتوجّب عندها على الخزينة التي تستفيد من الجزء الأكبر من أرباحه، أن تغطي هذه الخسائر أو العجز، وهذه ترجمة للمبدأ البديهيّ الذي يفرض على من يستفيد من الأرباح أن يتحمّل الخسائر.

هناك جدل

إذاً المادة 113 هي بيت القصيد، لأنها تنص صراحة على أنه في حال تكبد البنك المركزي خسائر على الدولة تغطيتها، لكن النقاش الدائر هو هل تنطبق على الديون التي يحمّلها «المركزي» للدولة أحكام المادة 113، وما هي النسبة التي على الدولة تحملها من هذه الخسائر خصوصاً أن صندوق النقد الدولي يوصي بأن لا تتعدى مساهمة الدولة في هذه التغطية أكثر من مليارين ونصف لاعادة رسملته، في حين أن الباقي أي نحو 70 مليار دولار هي ودائع مرّرت لـ»المركزي» عبر المصارف التي لبّت طلبه واستخدم الاموال في عدة اغراض منها ما هو جدلي ولا علاقة للدولة به بشكل مباشر، ولذلك يجب تحديد الجهة أو الجهات التي عليها تسديد هذه المليارات.

أين الاتفاقيات المعقودة؟

هذا النقاش يتقاطع مع رأي الأستاذة الجامعية والباحثة في القوانين المصرفية والمالية الدكتورة سابين الكك، والتي تعتبر أنه «باستثناء اليوروبوندز وسندات الخزينة، كل ما يدعيه مصرف لبنان من ديون في ميزانياته على عاتق الدولة هو غير قانوني، لحين اثباته بالاتفاقيات المعقودة مع الحكومات المتعاقبة والمصادق عليها من مجالس النواب او بكشوف حسابات سنوية بينه وبين وزارة المالية عن حساب تثبيت القطع». في المقابل يعتبر خبراء في القانون أن «إلزام مساهمي المصارف التجارية بإعادة رسملة مصارفهم (وهذا ما تفرضه المادة 216 من قانون التجارة)، تستوجب القبول في الوقت عينه إعادة رسملة مصرف لبنان من قبل «مساهمه» الأوحد، الدولة، لأن وحدة المعايير ووحدة المصطلحات هي أساس كل نقاش جدّي ومُثمر».

ماذا يقول نصّ المادة؟

قبل الدخول في نقاش حول مسؤولية كل من الدولة و»المركزي» والمصارف لسد «الفجوة المالية» وتوزيع الخسائر، لا بد من التذكير بأن المادة 113 تنص على ما يلي: يتألف الربح الصافي من فائض الواردات على النفقات العامة والأعباء والاستهلاكات وسائر المؤونات. يقيّد 50 بالمئة من هذا الربح الصافي في حساب المصرف المركزي يدعى «الاحتياط العام» ويدفع 50 بالمئة إلى الخزينة.عندما يبلغ الاحتياط العام نصف رأسمال المصرف يوزع الربح الصافي بنسبة 20 بالمئة للاحتياط العام و80 بالمئة للخزينة. وإذا كانت نتيجة سنة من السنين عجزاً تغطى الخسارة من الاحتياط العام، وعند عدم وجود هذا الاحتياط أو عدم كفايته تُغطى الخسارة بدفعة موازية من الخزينة. وإذا أصبح رصيد حساب «الاحتياط العام» من جراء اقتطاع مبلغ بموجب الفقرة السابقة أقلّ من نصف الرأسمال يجري توزيع الربح الصافي مجدداً بنسبة 50 بالمئة لهذا الحساب و50 بالمئة للخزينة، إلى أن يبلغ الحساب مجدداً نصف الرأسمال».

تجدر الاشارة أيضاً الى أن أحكام المادة 113 تتناول كل سنة مالية على حدة، وإمتناع الدولة عن تسديد متوجباتها خلال سنة معيّنة أو أكثر، عملاً بأحكام المادة 113، فهل يعفيها او لا يعفيها من موجب تغطية العجز أو الخسائر التراكمية؟

الدولة مسؤولة

يشدّد نائب حاكم مصرف لبنان سابقاً الدكتور غسان العياش لـ»نداء الوطن» على أن «المادة 113 من قانون النقد والتسليف تكتسب أهمّية قصوى في الظروف الراهنة، حيث يدور جدال واسع حول طريقة توزيع الخسائر الجسيمة اللاحقة بالنظام المالي والتي تتجاوز سبعين مليار دولار»، لافتاً الى أن «مشاريع التعافي المالي التي توالى صدورها عن الحكومة الحالية والسابقة تتّجه إلى تحميل القسط الأكبر من الخسائر للمودعين والمصارف، إذا نصّت صراحة على «تصفير» ما تبقّى من رساميل المصارف وشطب نسبة كبيرة من حقوق المودعين».

يضيف: «من الأكيد أن هذه التوجّهات تقضي على الثقة بالنظام المصرفي اللبناني سواء لجهة الاستثمار في الصناعة المصرفية اللبنانية أو إيداع الأموال في مصارف لبنان، وكانت هاتان الظاهرتان من أهمّ مزايا النظام المصرفي بين مصارف المنطقة بل هي من أهمّ ميزات الاقتصاد اللبناني. وتتخفّى هذه التوجّهات وراء شعارات برّاقة ترفض تحميل الدولة أي نسبة من الخسائر»، موضحاً أنه «بالعودة إلى المادّة 113 من قانون النقد والتسليف نجد أن إعفاء الدولة من الخسائر مخالف لنصّ وروح القانون، إذ إن المادّة المذكورة تحمّل الخزينة العامّة مسؤولية أية خسائر يحققها مصرف لبنان عندما نصّت على تسديد أية خسائر في المصرف المركزي لحساب الاحتياط في المصرف، وعند عدم وجود هذا الاحتياط او عدم كفايته تغطى الخسارة بدفعة موازية من الخزينة».

موقف «وطني» ظالم

يرى العياش أن «إعفاء الدولة من مسؤولية الخسائر الجسيمة في مصرف لبنان وإن كانت تدّعي أنها تستند إلى موقف وطني فهي ظالمة ومخالفة للقانون، ومضرّة للاقتصاد اللبناني وموقع لبنان على الخريطة الاقتصادية للمنطقة العربية»، مشدداً على أن «المصلحة والقانون يقضيان بعدم تحميل الخسائر للمودعين أوّلاً تحت أية حجّة كانت. والقانون لم يحمّل المسؤولية لخزينة الدولة عن عبث بل لأنه منح الحكومة عبر وزارة المالية قدرة واسعة على مراقبة أعمال المصرف المركزي وحساباته، عبر الصلاحيات الواسعة المعطاة لمفوّض الحكومة لدى مصرف لبنان التابع مباشرة لوزير المالية».

لا بدّ من تصويب النقاش

تشرح الكك لـ»نداء الوطن»وجهة نظرها حول تحمّل الدولة مسؤولية ديون مصرف لبنان بالقول: «لا بد من تصويب النقاش حول إشكالية الديون العامة، كونها تحت سقف الدستور اللبناني الذي يعتبر القانون الأسمى حيث ينص في المادة 88 منه أنه: «لا يجوز عقد قرض عمومي ولا تعهد يترتب عليه انفاق من مال الخزانة الا بموجب قانون»، واستناداً لما تقدم، أي بند يدرج في منشورات مصرف لبنان الشهرية او في موازنته السنوية يقضي بترتيب التزامات من المال العام، لا يستقيم قانوناً ويعتبر في حكم المنعدم ما لم يكن قد صادق عليه مجلس النواب بهيئته العامة وأصدره بصيغة «قانون» ووقّعه رئيس جمهورية ونشر في الجريدة الرسمية»، لافتة الى أنه «في هذا السياق، القروض المعقودة او التزامات المال العام بين مصرف لبنان والدولة اللبنانية لا تتعدّى بأي حال من الأحوال، وفي اي ظرف من الظروف، نص المادة 88 من الدستور. لذلك، لا بد أن تتجلى علاقة المديونية بين مصرف لبنان والدولة في إحدى الصيغ القانونية التي سيتم ذكرها، وأولها اتفاقية قرض مباشر بين مصرف لبنان ووزير المالية استناداً للمادة 91 من قانون النقد والتسليف على أن يقرها مجلس الوزراء وتحال إلى مجلس النواب لكي يصادق عليها بقانون. وسنورد نموذجاً عن هذه الاتفاقية المعقودة الصادرة عام 1977 وعن تعديل بعض بنودها الصادر أيضاً بموجب قانون».

هناك أمثلة

تضيف الكك: «الصيغة القانونية الثانية هي اتفاقية قرض مباشر بين مصرف لبنان وإحدى هيئات القطاع العام (مثلاً كهرباء لبنان)، على أن تكون بكفالة الدولة بحسب المادة 92 من قانون النقد والتسليف، تقر الحكومة الاتفاقية بكفالتها وتحيلها للسلطة التشريعية لكي يُصادق عليها بصيغة قانون. وهنا نورد نموذج اتفاقية كفالة لمصلحة مؤسسة كهرباء لبنان صادرة عام 1991»، مشيرة الى أن الصيغة الثالثة هي الرصيد المدين للحساب الخاص بالمادة 115 من قانون النقد والتسليف وهو الحساب التي تقيد فيه الخسائر الناتجة، في موجودات المصرف من ذهب وعملات اجنبية، عن تعديل سعر الليرة اللبنانية القانوني أو سعر إحدى العملات الاجنبية. على أن هذا الحساب المدين لا يستحق على الدولة ما دامت الخسائر لا تتجاوز 25 بالمئة نسبة لموجودات مصرف لبنان من الذهب والعملات الاجنبية».

شروط المادة 116

تشدّد الكك على أن «هذا الحساب المدين، عندما يستحق على الدولة ضمن شروط المادة 116 نقد وتسليف، يُسدّد إما نقداً وهنا يقتضي ان يسجل المبلغ المدفوع في حساب وزارة المالية، ويدرج في الموازنة التي يقتضي بدورها ان تصدر بقانون بمجلس النواب، وإما يسدد بموجب سندات خزينة تنتج فوائد على أن تحدد شروطها بالاتفاق مع مصرف لبنان. وهنا أيضاً وأيضاً، هذه الاتفاقية لا تنتج مفاعيلها القانونية الناجزة إلا بعد مصادقة مجلس النواب بموجب قانون»، مشيرة إلى أن «عملية ترصيد هذا الحساب الخاص وبحسب المادة 117 نقد وتسليف يلتزم بتقديمها حاكم مصرف لبنان، قبل 30 حزيران من كل سنة عن السنة المنتهية مرفقة بتقرير عن عمليات المصرف خلالها، على أن تنشر الميزانية والتقرير في الجريدة الرسمية خلال الشهر الذي يلي تقديمها لوزير المالية».

ظهور حساب مفاجئ

تتابع: «طبعاً، عند التساؤل عن سبب ظهور هذا الحساب المفاجئ في منشورات مصرف لبنان قد يتذرع هذا الاخير، بأن غياب ”تقارير حساب تثبيت القطع السنوية منذ 1993 حتى تاريخه وترصيده السنوي مع وزارة المالية” كانت بسبب عدم وجود فروقات مدينة او خسائر بين السعر القانوني والسعر الفعلي لليرة اللبنانية إلا بعدما ارتفع السعر الرسمي إلى 15000 ل.ل».

ترى الكك أن «هذا التبرير هو مخالفة قانونية بحد ذاته، لأن هذا الحساب بموجب قانون النقد والتسليف لا يمكن ان يكون إلا حساباً مديناً او حساباً دائناً. ففي الحالة الاولى، كان يقتضي تفنيد الخسائر في ميزانياته مهما بلغت، أما في الحالة الثانية كان يجب استعمال الارباح لاستهلاك مسبق لسندات الخزينة المصدّرة من الدولة، والأمران لم يحصلا حسب الاصول، لأن مصرف لبنان كان يخفي، عمداً وعن سابق تصور وتصميم، خسائر الحساب الخاص الفعلية المتمثلة بتكلفة سياسته النقدية المباشرة طوال عقود من الزمن».

مسألة السندات

وتوضح أن «الصيغة القانونية الرابعة التي تنظم علاقة المديونية بين مصرف لبنان والدولة، هي سندات الخزينة والسندات السيادية الصادرة عن الدولة اللبنانية وفق الاصول الدستورية والتي يحملها مصرف لبنان في محفظته الاستثمارية. وبناء عليه، كل البنود التي سجل بموجبها مصرف لبنان ديناً عاماً على عاتق الدولة اللبنانية هي بنود فارغة في مضمونها المحاسبي وفاقدة لركنها القانوني، إلا ما وافق عليها مجلس النواب اللبناني وأصدرها بموجب قوانين منشورة في الجريدة الرسمية».

وتختم سائلة: «هل سيصادق مجلس نواب 2022 على أرقام حاكمية ملاحقة بتهم جنائية؟ وهل التدقيق الجنائي رصد كل تلك الارتكابات المحاسبية؟».

مصدرنداء الوطن - باسمة عطوي
المادة السابقةنصار: مليونا سائح… والمداخيل 10 مليارات دولار
المقالة القادمةما يجب أن تعرفه عن مستقبل الخدمات المصرفية الرقمية