نكتة “الهيئات الاقتصاديّة” والوكالات الحصرية: اقتصاد المافيا

بين الحين والآخر، تشهر “الهيئات الاقتصاديّة”، التي تمثّل كبرى المؤسسات الخاصّة، شعار الدفاع عن هويّة لبنان الاقتصاديّة، وتحديداً اقتصاده الحر، بهدف الدفع باتجاه سياسات أو إجراءات تخدم مصالحها. وفي واقع الأمر، تستغل الهيئات الاقتصاديّة هذا الشعار الذي يلعب على وتر انفتاح الاقتصاد اللبناني تاريخياً على الأسواق العالميّة، وحاجته إلى تدفقات العملة الصعبة من الخارج، إلى أن يتبيّن أن ما تطالب به هذه الهيئات –باسم هذا الشعار- يناقض تماماً أبسط مبادىء الاقتصاد الحر المعروفة.

بمعنى آخر، ما تطلبه الهيئات الاقتصاديّة تحت مسمّى حماية “الاقتصاد الحر”، ليس سوى حماية اقتصاد المافيا، الذي تنتفع فيه قلّة محظيّة بحمايات رسميّة وقانونيّة، على حساب المنافسة التي يفترض أن تحكم السوق في الأسواق الحرّة.

على هذا النحو مثلاً، قدّمت الهيئات الاقتصاديّة مؤخّراً مذكّرة إلى الحكومة اللبنانيّة، طالبت فيها بالحفاظ “على هويّة لبنان الاقتصاديّة ونظامه الاقتصادي الحر، الذي يرتبط بدوره بقانون المنافسة، لاسيما الحفاظ على الوكالات الحصريّة”. النكتة الفعليّة هنا تكمن في أن الهيئات الاقتصاديّة تطالب بحماية الاحتكارات التاريخيّة التي تستفيد منها حلقة ضيّقة من المؤسسات التجاريّة، بإسم الحريّة الاقتصادية، في حين أن أوّل ما يفرضه الاقتصاد الحر هو تحرير الأسواق من هذا النوع من الاحتكارات التي تتعارض مع أبسط مبادئ “المنافسة العادلة”.

وفي واقع الأمر، ثمّة أهميّة خاصّة لحديث الهيئات الاقتصاديّة عن قانون المنافسة، الذي يتم العمل على إقراره اليوم. فتطرّق الهيئات لهذا القانون، وربطه بمسألة الوكالات الحصريّة، ينطلق من خشية الهيئات من إمكانيّة انطواء هذا القانون على بنود إصلاحيّة، يمكن أن تمس بمبدأ الاحتكارات أو حتّى تمنعها. وهذه الخشية، مرتبطة بدورها بمعرفة الهيئات الاقتصاديّة أن ما يحرّك قانون المنافسة اليوم ليس سوى ضغط المجتمع الدولي وصندوق النقد باتجاه إصلاحات تنهي مبدأ الاحتكارات في السوق المحليّة، وتحرر الأسواق من سطوتها. بمعنى آخر، ما تقوم به الهيئات الاقتصاديّة هنا هو استماتة بالدفاع عن مصالحها، حتّى لو كان الثمن إبقاء الاقتصاد المحلّي رهينة ممارسات تجاريّة متخلّفة، لا تتناسب مع أبسط مقوّمات المنافسة، وحتّى لو كان الثمن مقاومة الإصلاحات المطلوبة من لبنان دوليّاً.

منذ أكثر من عامين، وكنتيجة للشروط الإصلاحيّة التي فرضتها الدول الداعمة في مؤتمر سيدر، بدأت وزارة الاقتصاد بتحريك ملف مسودّة قانون المنافسة، الذي كان من المفترض أن يضع حداً لمبدأ الاحتكارات، ويحرر السوق المحلّي بشكل تام. لكنّ منذ ذلك الوقت، استمرّت القوى المستفيدة من الوكالات الحصريّة بعرقلة هذا القانون، وهو ما أدّى إلى فرملة العمل عليه في العديد من المحطّات. لا بل عملت هذه القوى في عدّة مراحل على إقحام تعديلات “ملغومة” على مسودّة مشروع القانون، بما يؤدّي إلى تفريغه من مضمونه، ويمنع المس بالوكالات الحصريّة. وفي النتيجة، كان الملف يعود إلى نقطة الصفر في كل مرّة، بعد أن تصبح مسودّة مشروع القانون غير متناسبة مع الشروط الإصلاحيّة الدوليّة، بفعل هذا النوع من التعديلات الملغومة.

اليوم، يستعد لبنان للعودة إلى طاولة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، الذي وضع منذ البداية شروطاً إصلاحيّة عديدة تتعلّق بتنافسيّة السوق المحليّة، وتحريرها من قيود الاحتكارات التاريخيّة. ولهذا السبب، عادت وزارة الاقتصاد والتجارة إلى تحديث “سياسة المنافسة” التي تتبنّاها، بالتوازي مع تحريك ملف قانون المنافسة التي يفترض أن يسعى إلى ملاءمة شروط الصندوق في ما يخص الاحتكارات. ومن هذه الزاوية بالتحديد، يمكن فهم استنفار الهيئات الاقتصاديّة لحماية وكالاتها الحصريّة، كما يمكن فهم نغمتها عن هويّة لبنان الاقتصاديّة والسوق الحر.. والوكالات الحصريّة!

كما هي العادة، سيعود اللبنانيون إلى فكرة التذاكي على المجتمع الدولي، في كل مرّة يُطلب منهم تنفيذ إصلاحات معيّنة، وخصوصاً حين تمس هذه الإصلاحات مصالح الفئة النافذة سياسياً ومالياً. فالهيئات الاقتصاديّة تعلم جيّداً أن الإطاحة بقانون المنافسة غير ممكن من الناحية الواقعيّة، كون هذا القانون سيمثّل شرطاً أساسياً لأي برنامج قرض يمكن التفاهم عليه مع صندوق النقد الدولي. لكن الهيئات تسعى في المقابل لتضمين مسودّة القانون بعض الألغام الكفيلة بحماية مصالحها، وخصوصاً تلك التي تتعلّق بالوكالات الحصريّة التاريخيّة.

منذ عقود، تعمل السوق المحليّة في ظل هيمنة شبه كاملة لعدد محدود من المحتكرين في كل قطاع: ثمّة 13 مستورداً للأدوية يحتكرون الغالبيّة الساحقة من الماركات المعروفة، فيما تحتكر استيراد الغاز مجموعة من المستوردين الذي يهيمنون على الخزّانات على امتداد الساحل اللبناني. عقود استيراد ماركات المصنوعات الغذائيّة تتوزّع بمعظمها على عدد لا يتخطّى العشرة المستوردين، بينما تحتكر استيراد كل ماركة من ماركات السيارات الجديدة شركة محليّة واحدة. وعلى هذا النحو، يمكن القول أن جميع القطاعات الاقتصاديّة تعيش الواقع نفسه، من الكحول إلى إطارات السيارات والمفروشات وصولاً إلى مواد البناء ومستحضرات التجميل.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةكيف خدعت المصارف عملاءها بتمليكهم سندات فاقدة القيمة
المقالة القادمةلجنة الاقتصاد ناقشت التحديات التي تواجه القطاع في ظل هذه الازمة الاقتصادية