نموذج من سرقة المال العام في تقرير لديوان المحاسبة: الهدر في تنفيذ أشغال يصل إلى 80 في المئة!

من يقرأ الملف المرسل من وزارة الأشغال إلى ديوان المحاسبة لطلب الموافقة على عقد مصالحة لتنظيف شبكات تصريف المياه، لن يُصدق أن ما يتضمنه هو أرقام رسمية أو صادرة عن مراجع مسؤولة عن حماية المال العام. مبالغ بمئات الملايين تُهدر بشكل وقح، عبر ملء جداول بأرقام عشوائية لا دور لها سوى زيادة قيمة العقد. الأسوأ أن من سعى إلى السطو على المال العام لم يشعر أنه بحاجة إلى إخفاء فعلته. وحتى عندما طالبه الديوان بتوضيح بعض الأرقام «غير المنطقية»، قدم مستندات تدينه أكثر، لتكون النتيجة رفض العقد المضخّم بنسبة 80 في المئة وتحويل المتورّطين إلى التحقيق القضائي

في واحد من العقود التي يفترض أن تكون روتينية، نموذج فاقع لما يعنيه انحلال الدولة ومؤسساتها. هدر المال العام على عينك يا تاجر. وقد بدأت القصة عندما أحال مراقب عقد النفقات في وزارة الأشغال عقداً إلى ديوان المحاسبة في 28/10/2020، لإجراء الرقابة الإدارية المسبقة عليه. العقد هو عقد مصالحة لدفع بدل تنظيف وتأهيل شبكات تصريف مياه الأمطار والمجاري الصحية في ضاحية بيروت الشمالية – جونيه حتى كازينو لبنان – طرابلس – دوار أبو علي، للفترة ما بين 1/1/2015 و11/3/2015. تضمن الملف تقريراً وضعته لجنة المتابعة التي شكّلت في الوزارة، والمؤلفة من المهندسين عصام العبدالله وحسين بوصالح، للإشراف على الأعمال المنجزة من قبل المتعهد «مكتب حميد كيروز».

يتبيّن في ذلك المستند، الذي أرسلت نسخة منه إلى رئيس مصلحة الصيانة في الوزارة، أن كلفة الأشغال بلغت ملياراً و249 مليون ليرة، نزّلت بنسبة 20 في المئة لتصل إلى 999 مليون ليرة. لكن ما لفت الانتباه سريعاً، وقبل الدخول في تفاصيل الأرقام، أن التقرير المقدّم إلى الديوان لا يتضمن محاضر تسلم أشغال، فضلاً عن أن الجدول المرفق بالمعاملة يشير إلى تنفيذ 162 مهمة أثناء أيام سقوط الأمطار و124 مهمة طوارئ خارج أيام سقوط الأمطار، علماً بأن مجموع أيام العقد هو 70 يوماً فقط، فمن أين أتت الأيام الـ162؟

ذلك الأمر استدعى عقد الديوان، في كانون الأول الماضي، جلستين استيضاحيتين مع الإدارة المعنية، حيث عمد العبدالله، في 14/12/2020، إلى إيداع مستندات جديدة يبين فيها حقيقة الرقم 162 الوارد في التقرير، فأشار إلى أن عدد أيام مهمات الطوارئ خلال هطول الأمطار هو 27 يوماً، عملت خلالها سبعة فرق عمل، ما مجموعه 189 يوم عمل للفرق كافة. على افتراض أن وجود فرق عديدة للعمل قد يبرر تسجيل 162 يوم عمل، فلماذا أصبح عدد الأيام 189 يوماً؟ ثم إذا كان المستندان موقّعين من الجهات المعنية حسب الأصول، فأي رقم هو الصحيح؟
هكذا ببساطة صار لدى الديوان نسختان مختلفتان في المضمون للمستندات نفسها

الاختلاف في البيانات يطال أيضاً مهمّة «تنظيف وتعزيل وتكنيس الطرق أو الاوتوستراد». في المستند الأول، أشير إلى أن العمل كلّف 128 مليون ليرة، وفي المستند الثاني كلف 110 ملايين ليرة.
وأكثر من ذلك، تبدو كل تفاصيل الأشغال المنفّذة مختلفة بين المستندات الأولى والثانية، والموقّعة من عضوي لجنة الإشراف والمتعهد.

في المحصلة، تبيّن لديوان المحاسبة أن طريقة الاحتساب تلك قد أدّت إلى أضرار كبيرة بالأموال العمومية، حيث تراوح هذه الخسارة في المال العام بين 710 ملايين ليرة إذا اعتمد المستند الأول و872 مليون ليرة إذ اعتمد المستند الثاني، أي بمعدل وسطي يبلغ 791 مليون ليرة. وهذا يساوي نحو 80 في المئة من قيمة العقد. وبذلك، بدلاً من حصول المتعهد على 200 مليون ليرة عن 70 يوم عمل، كان يمكن أن يحصل على مليار ليرة غير مستحقة. من كان سيحصل على الفارق ومن هم المتورطون في الملف؟ هذا ما سيبيّنه التحقيق القضائي الذي قرر ديوان المحاسبة إجراؤه.

مصدرجريدة الأخبار - إيلي الفرزلي
المادة السابقةمنصّة سلامة: لا ضمانة بوقف السوق السوداء
المقالة القادمةتلقيح 94 ألفاً مقابل 81 ألف مصاب في شهر واحد | لبنان يخسر سباق التلقيح