هل المساعدات المالية ستُنقذ لبنان حقاً؟

تزامن انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية مع تغيّر جذري لنموذج التنمية الاقتصادي والاجتماعي في الدول النامية، بعد عقود من السياسات الاشتراكية التي خلّفت فساداً إدارياً، ومعدلات تضخّم عالية، أرهقت كاهل العديد من الدول النامية والفقيرة، مما استدعى الحدّ من الفساد في القطاع العام واستقرار الأسعار وتشجيع الاستثمارات الخاصة، لاستدامة النمو وخلق فرص العمل وتقليص معدلات الفقر.

كان لبنان من بين الدول النامية التي طبقّت هذا النموذج الاقتصادي، حيث جرى إشراك القطاع الخاص في إدارة العديد من القطاعات الاقتصادية التي كانت تملكها الدولة، كقطاعات الإعلام المرئي والمسموع والتعليم والنقل والمواصلات والاتصالات والنفط والكهرباء والصحة والأشغال العامة والمياه والبريد. وللحدّ من معدلات التضخّم وانهيار العملة الوطنية، رفع البنك المركزي اللبناني الفائدة على الودائع بالليرة اللبنانية بشكل كبير، وقامت الدول الخليجية بإيداع مبالغ مالية كبيرة لدى البنك المركزي مكّنته من التدخّل بحزم في الأسواق لتثبيت سعر الليرة اللبنانية مقابل الدولار. وبالفعل، انخفضت معدلات التضخّم من 7,2% عام 1997 إلى أقل من صفر بالمئة عام 2000، وظهر بذلك جلياً أنّ السلطات النقدية نجحت في كبح جماح الأسعار واستقرارها تماماً وفق ما خططت له. ولكن هذا الاستقرار في الأسعار لم يُترجم إلى معدلات نمو مستدامة كافية لخدمة الدين العام وتجنيب اللبنانيين الكارثة المالية التي يمرون فيها اليوم.

أثّرت معدلات الفائدة العالية في الفترة التي سبقت الأزمة المالية العالمية عام 2007 بشكل كبير على تحفيز النمو الاقتصادي. ففي الفترة الزمنية 1997 – 2006 بلغ معدل النمو 2,7% سنوياً، وكان بالكاد يعادل معدلات النمو السكانية والتي بلغت 2,8% سنوياً. وعندما وقعت الأزمة المالية العالمية، كان لبنان لا يزال تحت تأثير عملية اغتيال الرئيس الحريري وحرب تموز. ونتيجة لذلك، انخفضت معدلات النمو من 6,7% عام 2004 إلى 1,5% عام 2006. وساد خوف آنذاك بين اللبنانيين بأنّ رياح الأزمة المالية ستجهز على ما تبقّى من اقتصاد بلادهم. ولأنّ السلطات النقدية أبقت معدلات الفائدة عند مستوياتها العالية، ونتيجة للتباين الكبير بين أسعار الفائدة اللبنانية والعالمية، شهد لبنان تدفقات مالية كبيرة قُدّرت بحوالى 30 مليار دولار. ونتيجة لذلك وبعكس كل التوقعات، شهد الاقتصاد اللبناني إحدى أعلى معدلات النمو في العالم، حيث لامست حدود الـ 10% في السنوات الثلاث التي تلت الأزمة المالية. ولكن هذا النمو لم يدم طويلاً، وسرعان ما تلاشى بعد ذلك، ولم يتجاوز معدله 0,51% سنوياً في الفترة الزمنية 2011 – 2019. فلماذا لم ينجح الاقتصاد اللبناني في استغلال استقرار الأسعار والأموال المتدفقة وتحويلها الى نمو مستدام؟

يوجد عوامل عديدة وراء هذا الفشل يمكن تلخيصها بالآتي:

أولاً، إنّ القطاعات التي تمّت خصخصتها بعد انتهاء الحرب الأهلية، هي قطاعات خدمات تلبّي حاجة السوق المحلي ولا يمكنها وحدها احداث نمو مستدام على المدى البعيد من دون مؤازرة حقيقية من قطاعات التجارة الخارجية.

 

ثانياً، افتقد النموذج اللبناني الى أي استراتيجيات لتنمية قطاعات إنتاجية جديدة قادرة على الوصول والمنافسة في الأسواق العالمية. وعانت قطاعات التجارة الخارجية من ضعف بنيوي وتُركت لمصيرها المشؤوم، وهو الإقفال وتسريح العاملين فيها.

ثالثاً، نتيجة غياب أي استراتيجيات وسياسات إنتاجية، تمّ استثمار الأموال التي تدفقت إلى لبنان جراء الأزمة المالية، في تمويل استهلاك الأسر والقطاع العام وقروض الإسكان. فزادت معدلات التضخّم بشكل ملحوظ، ممّا تسبّب في انخفاض كبير في القيمة الحقيقية للرواتب وازدياد معدلات الفقر.

رابعاً، كانت وتيرة التضخم في لبنان أكبر من وتيرة التضخم في الولايات المتحدة. ونتيجة ذلك ارتفعت القيمة الفعلية لليرة اللبنانية مقابل الدولار، ما أدّى إلى زيادة الواردات ومنع نمو الصادرات، وزاد عجز الميزان التجاري وأجهز على ما تبقّى من قطاعات إنتاجية ومن إمكانية مساهمتها بمعدلات نمو مستدامة.

خامساً، تحوّلت القطاعات التي تمّت خصخصتها، إمّا الى قطاعات محتكرة كقطاع الاتصالات، أو الى قطاعات فاشلة وغير قادرة على تأمين الحدّ الأدنى من الخدمات كقطاعي الكهرباء والمياه. لذلك، ساهمت الخصخصة في ازدياد معدلات التضخّم وانخفاض معدلات النمو.

سادساً، في تسعينيات القرن الماضي، شهد العالم أفول عصر الثورة الصناعية وبزوغ عصر جديد قائم على المعلومات. ومن أجل ذلك، كان وجود قطاع عام فعّال ونشط أمراً ضرورياً لإيجاد البنى التحتية المعرفية والاستثمار في نقل وتوليد المعرفة. ولكن للأسف، لم يكن للدولة أي دور اقتصادي فاعل، وتُركت القطاعات الإنتاجية في حال عجز معرفي أثّر على قدرتها على المنافسة في الأسواق الخارجية.

أخيراً، تطلّب العصر الجديد إعادة النظر بشكل جذري بالرؤية والسياسات والنظم التعليمية، للوصول إلى رأس مال بشري مبدع يساند ويدعم القطاعات الانتاجية. وعلى العكس تماماً، ظلّ التعليم في لبنان يتّبع النظام التقليدي الذي فشل في التقليل من نسب البطالة بين حملة الشهادات الجامعية.

 

مصدرمحمد أحمد أبو هميا - الجمهورية
المادة السابقةتونس.. قطاع السياحة يتعزز بمشاريع بنحو 100 مليون دولار على مدى 5 سنوات
المقالة القادمةالسعودية تسجل أكبر تقدم في «الرفاهية العالمي» بمنطقة الشرق الأوسط