عِندَ قِراءة فَذلَكة مَشروع قانون المُوازنة العامّة والمُوازنات المُلحَقة، للعام ٢٠٢٤، كما صَدَرَت عَن وزير الماليّة بكِتابه إلى مَجلِس النُوَّاب بتاريخ ٢٦ تشرين الأوَّل ٢٠٢٣، وبَعدَ التَمَعُّن بأرقامِها ومَراميها، يتساءل المرء: هل فعلا من وضعوا تلك الموازنة يعيشون مع اللبنانيين ويختبرون ما يختبره هؤلاء من أزمات، لم تبدأ منذ العام ٢٠١٩ انما تعمقت وتشعبت حتى باتت تخنق البلد؟.
قد يكون هُناك اجراءات نادرة يمكِن اعتِبارُها نُقطة بِداية مَقبولَة، كـاحتِرام المِهَلْ الدُستوريَّة للمَرَّة الأولـى مُنذُ سِـنـيـن وتَصحيح بَعض الرُسوم، لَكِنَّها تَبقـى خَجولَة ولا يَختَلِجُ فـي طَيّـاتِها أيُّ نَفَسٍ إصلاحـي، حتَّى في المُحاولة الشَكليَّة لتَخفيض عَجز الخَزينة. لكن في الإجمال يمكن تسجيل الآتي:
١- تتضمن الفَذلَكة كـلامـاً إنشائيَّاً، غَيرَ واقِعـي، وهوَ لِذَرِّ الرَماد في العُيون، وقد تَعَوَّدنا عَليه على مَدى السَنَوات، كتَخفيض النَفَقات غَير المُجدِية وتَوفير الخَدَمات العامَّة للمُواطنيـن وتأمين استِدامة القِطاع العام، ولَـجـم التَهَرُّب الضَريـبـي ومُكافَحة التَهريب، وتَعزيز السِياحة وحَرَكة الصادِرات، وإعـادة الاقتِصاد علـى خارِطة النُمُوّ الحَقيقي المُستَدام، كـأنَّ هَذه الدَولة قد بلَغت مِن الرُشدِ مكاناً وأنَّ سَـاعِدَها قَد اشـتَدَّ لتَحقيق كُلّ ذلك.
غياب الخطة الإنقاذية
٢- لا يُقارِب مَشروع المُوازَنَة مُشكِلاتنا الأساسيَّة ولا يَعكُس أيّ خُطّة إنقاذيَّة، وبالتالي لا يُشَكِّلُ فرصةً مُتاحة للنُهوض. هوَ لَيسَ التَرجَمَة الأوَّليَّة لخُطَّة التَعافـي، ولا يَعتَـرِف بالواقِع الاجتِماعي، ويَفتَقِد لفلسَفة اجتِماعيَّة ولرؤية اقتِصاديَّة، إذ لا يُضِيء على توَجُّهات إصلاحيّة أساسيَّة فـي الماليّة العامّة وفـي بُنية الاقتِصاد. فمَثَلاً نِسبَـة الضَرائِب المُباشَـرة مِن اجمالـي الإيرادات لا تَزال مُنخَفِضة جِدَّاً مُقارَنة بالضَرائِب والرُسوم غَير المُباشَرة، وهـذا مؤَشِّرٌ غَيـرُ عادِل وغَيـرُ صِحّـي على الإطلاق. ونَسأل، هَل يُمكِن تَحصيل كُلّ الإيرادات المُرتَقَبة في ظِلّ نِظام التَعامل نَقداً (اقتِصاد الكـاش) المُتَحَكِّـم بالسُوق المَحَلِّي طالَما لَمْ تُـقَـرّ الإصلاحات الماليَّة، أم أنَّ مَسار تَحميل هـذه الأعـباء علـى عـاتِـق المُلتَـزمين بـالقوانيـن، فقط دونَ سِواهم، لا يزال سـاريــاً؟
٣- يَكـاد لا يَظهَر في مَشروع قانون المُوازنة أيّ أثَر يُذكَر لمُواجَهة الفَقر المُتَنامـي والمُتَفاقِـم، ومُعالَجة شِبه إفلاس الضَمان الاجتِماعـي والصِحّـي، وتَصحيح رَواتِـب العامِليـن فـي القِطاع العام، وكَـبح تَـدَهور المُستوى التَعليمي…
٤- لا يَتَضَمَّن مَشـروع المُوازَنة أيّ آليّات لإعـادة هَيكَـلـة الـدَين العام، ولا يَـلحَظ أيّ مؤَشِّرات هامّة للإصلاحات البُنيَويَّـة المُفتَـرَضة، لا سِيَّمـا فـي مَجالات الـطّاقـة والاتّصالات والنِظام الضَـرائِبـي، وبَرامِج الحِمايـة الاجتِماعـيَّـة والـرِعايـة الصِحيَّة حَـيث لا تَـوَجُّه جِدِّي فـي هذا الإطار.
أرقام ومقارنات
٥- هَذه المُوازنـة هـيَ مَجموعة أرقـام جَـرى تَركيـبُهـا علـى غِـرار مـا كـانَ سائِـداً قَـبـلَ الأزمـة وفـي خِـلالَـهـا، ولا يبدو أنَّها تستَنِد، كـما يُفتَـرَض، إلـى أداء الأشهُر السِتَّة أو السَبعة الأولـى مِن العام الحالـي ٢٠٢٣. ولِلعِـلم، تَبلُغ إيرادات الخَزينة، المُرتَقَبة فـي مَشـروع المُوازنـة، ٣،١٢ مليار دولار، ما نِسبَته قُرابة ١٤٪ فَقَط مِـنْ إجمالي الناتِج المَحَلِّي. ويَـبلُغ إجمالي النَفَقات ٣،٣٢ مليار دولار، مِنها ٣،١ مليار دولار نَفَقـات جاريَــة، أي أنَّ النَفَقـات الاسـتِـثماريَّـة تُمَثِّـل أقَلّ مِنْ ٦،٧٪ مِـنْ مُجمَل الإنفاق العـام.
ولمَزيدٍ مِنَ التَوضيح ومِنْ بابِ الاستِطراد، تَجدُر مُقارَنة حَجم هَذه المُوازنة الهَزيلة للدَولة اللبنانيَّة المُستَضعَفة:
ـ بِحَجمِ مُجمَـل ميـزانـيَّــات مُـنَـظَّمات الـ NGOs العامِـلة فـي لبنان لِلُبنانـيَّـيـن ولِلنازِحيـن ولِلّاجِئِيـن،
ـ وَبِحَجـمِ تَمويـل أحزاب وتَنظيمات فـاعِلة فـي لبنان،
ـ وَبِـالـحَجمِ الـمـالـي لِـكـارتيلات أصحاب المُوَلِّـدات الخاصَّة، وَكـارتيلات شَـبَكـات الإنتـرنـت،
ـ وَبِحَجم التَـهَـرُّب الـضَـريبي الذي قدَّرَته وزارة المالـيَّـة بِمــا بَين ١،٢ مـليار دولار وَ ١،٦٥ مليار دولارسَنويَّــاً فـي خِـلال الـفَـتـرَة المُمتَـدَّة مِـن العام ٢٠١٠ إلـى العام ٢٠١٩، مــا مُعَدَّلُـه ١،٤٢٥ مليـار دولار سَـنويَّــاً، والذي قَد يكون وَصَل إلـى مـلـيـارَي دولار سَــنـويَّــاً فـي خِـلال عـامَـي ٢٠٢٢ وَ ٢٠٢٣،
ـ وَبحَجم عَمَليَّـات الـتَهريب علـى اختِلاف أنواعِـهـا.
هَـذا، مِـنْ دونِ أنْ نَــنسـى حَجـم مـا سُـمِّـي تَضليلاً “هَـندَسـات مـالـيَّـة” كـانَ يُـمـارِسُـها مَصرِف لبنان فـي خِلال الحِقبة السابِقة عـلـى مَدى سَـنَواتٍ طِوال، والكُـلفة الباهِظة لتِلكَ المُمارَسات الشَاذَّة عـلـى الاقتِصاد والـناس، وهـيَ جَريمةٌ مــالـيَّـة غَيـر مَسبوقَة يَـنكَفِـئ مُعظَم القَضاء عَن مُحاكَـمة مُـرتَـكِبـيها.
فَـكَيفَ يُـمكِن بِـهَذه الأرقــام وبِهَكَذا وَضعِـيَّـة إعـادة بِـنــاء الدَولة ومـؤَسَّسَاتـهـا علـى أساس العَدالة والقـانون؟
ازدواجية المعايير
٦- لا تـؤَشِّـر هَذه المُوازنة إلـى الـتَـنـاغُم المَفروض بَـيـن الـسِياسـات الماليَّـة والاقتِصاديَّـة والنَقديَّـة. فَـهَلْ يَجوز مَـثَـلاً القُبول بازدواجيَّـة احتِساب الضَرائِب علـى أساس سِعـر صَـرف السُوق فـيما يحصل الـمُواطِـنون على بَعضٍ يَسيـرٍ مِن ودائعِهم علـى سِعر ١٥ ألف ليرة، إذا كان المبلغ خارِج إطار الـ ٤٠٠ دولار شهريَّاً؟
لَكِن بِالمُقابِلْ، هَل يَجوز السُكوت والتَغاضي عَن الاعتِراضات على بعض التَصحيحات في المُوازنة، مِن قِبَل الذين يُحقِّقون أرباحَهُم على أساس سِعر الصَرف في السُوق ليُراكموا الثرَوات مع تَنزيلات ضَريبيَّة، في حين يعيش مُعظَم اللبنانيِّين في الفَقر والعَوَز؟ ألا تَخفـي في طَيَّــاتِها مُحاولة البَعض، مِمَّن استفادوا على حِساب الناس، لقَونَنة نوعٍ مِن أنواع التَهَرُّب الضَريبي؟
إنَّ مَشروع قانون المُوازنة، كما هوَ مَطروح على مجلِس النُوَّاب وقَبلَ إنجاز الإصلاحات المَطلوبة لا سيَّما خُطَّة التَعافي الاقتِصادي والمالي، يُبَـيِّن استِمراريَّة طَريقة التَفكير النَقدي (الكـاش) لَدى الذين أشـرَفوا على إعدادِها وَوافقوا عليها، ويؤَكِّد الشُكوك أنَّهم بغالِبِيَّتِهِم يُخَطِّطون لتَحميل أصحاب الودائِع المَشروعة مُعظَم خِسارات القِطاع المالـي.
مِـنْ غَيـر المَنطِقـي ومِنْ غَيـر الواقِعـي الفَصل بَيـن خُطَّة التَعافـي وتَـوَجُّهـات المُوازنة، ولا قيمة للمُوازنة مِن دون المُباشَرة فِعلاً لا قَولاً بالإصلاحات البُنيَوِيَّة التـي جَرى التَفاهُم حَولَها مَع صُندوق النَقد الدَولـي بمَوجَب الاتِّفاق Staff-Level Agreement) SLA) المُوَقَّع بـتـاريخ ٧ نيسان ٢٠٢٢ والذي لَـــمْ يُنَفِّذ لبنان مِنه شَـيئـاً يَستَحِقُّ التَنويه. أذكُر هُنـا، علـى سَبيل المِثـال لا الحَصر، الكـابـيتـال كونتـرول، استِكمالَ إصلاح قانون السِرِّيَّة المَصرِفِيَّة، تَوزيعَ الخَسائِر بعَدالة وإنصاف على أساس مَنْ اسـتَفاد أكثَـر يَتَحَمَّل أكثَـر، اسـتراتيجِيَّةَ إعادة هَيكَـلَة المَصارِف، تَوحيدَ أسعار الصَرف، نتائِجَ تدقيق الفاريز أند مارسال، إصلاحَ النِظام الضَريبي ليُحاكـي الحَداثَة ولِيُصبِح أكثَرَ عَدالةً وكَفاءَةَ وحَيَويَّـةً.
تفاقم الأزمة
فـي هذا الإطار، تَجدُر الإشارة إلـى أنَّ مَسار تَصَـرُّفاتِهم لا يؤَشِّـر إلـى أنَّهم يُريدون الإصلاحات وإطلاق البَرنامَج مَع صُندوق النَقد الدَولـي، بَــلْ إلـى استِمرارهم علـى مِـنوال خُطَّة الظِلّ بِتَذويب وَدائِع الناس بالتوازي مع إرهاق مَحدودي الدَخل برُسوم مُشَتَّـتة يَـلحَظُها مشروع المُوازنة. لقَد قالوا بأنَّهم ضِدَّ الهيركات ولكِنَّهُم مارَسوه بأبشَعِ وأخبَثِ صُوَرِه، واستَبدَلوا عَن سُوءِ نِـيَّـة مُصطَلَح “الودائِع المَشروعة” بتَعبير “الودائِع المُؤَهَّلة” الذي لَـيسَ له تَفسيرٌ عِلمـي ومَنطِقـي.
ماذا فَعَـلـوا لتَصحيح الوَضع؟ لا شَـيء، بَـلْ علـى العَكس، تَفاقَمَت الأزمـة وتضَخَّمت فَجوة الخَسائِر في مَصرِف لبنان لتَصِل وَفقَ تَقرير الفاريز أنـد مارسال إلـى ٧٦ مليار دولار، مـا يوازي ضِعف مـا كانَتْ عَلَيه فـي العام ٢٠١٩. وقَد جاءَت التَـرجَمة العَمليَّة لـهَذه الخَسائِر استِعمالاً مِن دونِ وَجه حَـقّ ولا مُسَوِّغ قـانوني لِمُعظَم ودائِع الناس بالعُملات الأجنبيَّة وهـي حُقوق جَـرى الـتَصَــرُّف بِـهـا فـي “عملـيَّـات بـونـزي”، مِمَّا جَعل لبنان يُعـانـي مِن عَجز مـالـي خطير مُثَـلَّث الأضلُع، لَم يَسبِق له مَثيل فـي العالَم، يتَمَثَّـل بهذا التآكُـل فـي الادِّخارات الوطنيَّة، وبالعَجز فـي ميـزان المَدفوعات المُتأتّـي مِنَ العَجز فـي الميـزان التِجاري، وبالعَجز فـي المُوازنـة.
نشهد فـي لبنان، نِـفـاقـاً فـي الكَـلام وفـي المُمارَسة، وهُروباً إلـى الأمام، واعتِماد تكتيكـات تافِهة عِوَضَ النَظرَة الاستراتيجِيَّة المَسؤولة، فـي حين أنَّ دُوَلاً مِثل قُبرص واليونان وايسلَندا استَعادَت عافيَتَها في خِلال سَنَواتٍ مَحدودات وصَحَّحَت أوضاعَها الماليَّـة. أمّـا سـيـريلانكـا، فقَد وقَّعَت في تشرين الأوَّل ٢٠٢٣ ومِن دون إبطاء، اتّفاقاً مع صُندوق النَقد الدَولـي أمَــلاً باستِعادة عافيَتها فـي غُضون أربَع سَنَوات.
لِـذا، وَجُبَ التَذكير بـأن الأزمة التي انفجرَت بتاريخ ١٧ تشرين الأول ٢٠١٩، لا تَزال تتَعمَّق بنتائِجها الكارِثِيَّة، مَـا يَحمِلُنـا علـى السُؤَال ألَـمْ يَكُن لبنان قد بَـدأ مُنذُ حين مَرحلة الخُروج من الأزمة لَو أُقِرَّت الورَقة الإصلاحيَّة التي طُرِحَت في لقـاء القيادات السِياسيَّة في بعبدا بتاريخ ٢ أيلول ٢٠١٩، وَلَو بوشِرَ بالإصلاحات التي أقَرَّها مجلِس الوزراء بتاريخ ٣٠ نيسان ٢٠٢٠ مِن ضِمن خُطَّة إنقاذ متكامِلة وعلى أساس أن يُصبِح سِعر صَرف الدولار٤٣٠٠ ليرة في أواخِر العام ٢٠٢٣؟ الأرجَح أن الوَضع كـان قد تحَسَّن كثيراً وباطِّراد، لَكِنَّ الأزمة تفاقَمَت وتناسَلَت أزمات نتيجة المُناكَفات السِياسيَّة وقُصر النَظَر ومصالِح الاوليغارشيَّات العابِرة للطوائف والأحزاب، كُـلُّها، بالاتِّحاد والانفِراد، حالَت دونَ الإصلاح ولا زالت تُعيقُه.
للأسَف، يَعيشُ لبنان انهياراً في سُلَّم القِيَم، وفوضى في الاقتِصاد والمال والنَقد والتَشـريع والقَضاء، وأزيدُ فأقول خَواءً فِكريَّاً وعُقماً سِياسيَّاً، مِمَّا جَعلَه دَولة رَخوة Soft state وَفـقَ تَعريف عالِم الاقتِصاد السُوَيدي “غونار ميردال” فـي كِتابه “الدراما الآسيَويَّة – بَحثٌ فـي فَـقـرِ الأُمَـم” الذي نُشِـر عام ١٩٦٨. وهذه المُوازنة هـيَ مُحاوَلة لإعادةِ إحيـاءِ نِظامٍ مَبنـيٍّ علـى الـرَيع والنِفاق والرَتابة المُمِلَّة وعدم الجدّية.
*مداخلة القيت الخميس 14 كانون الأول في اجتماع اللجنة الاقتصادية-الأجتماعية في بكركي.