عدم موافقة هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل على قيام حكومة تصريف الأعمال بتصحيح للأجور بسبب كلفتها الباهظة وعدم قدرة الموازنة على تحملها، أمر مفهوم. إنما ما يصعب تصديقه هو نية الحكومة المستقيلة رفع رواتب موظفي القطاع العام في ظل الإنهيار وقبل الإصلاح. فبعيداً عن نتائج سلسلة الرتب والرواتب التي فاقت كلفتها الضعف وكبّدت الإقتصاد ما بين 1.6 مليار دولار كحد أدنى ونحو 2.3 مليار كحد أقصى خلال العام 2018 وحده، فان البلد يمر في مرحلة إنكماش تتراوح نسبته ما بين 20.3 و25 في المئة، أي أنه يسجل نمواً سالباً بأكثر من 20 في المئة. وموازنة الدولة في عجز يقدّر بحدود 5 آلاف مليار ليرة، رغم التوقف عن سداد الديون بالعملة الاجنبية. ومصرف لبنان استنفد احتياطياته وانتقل إلى استعمال التوظيفات الإلزامية.
وعائدات الدولة منخفضة بما لا يقل عن 8 في المئة، وميزان المدفوعات ما زال سالباً، رغم انخفاض العجز في الميزان التجاري، وعدد موظفي الدولة ما زال نفسه بحدود 320 ألفاً؛ هذا إن لم يكن قد ارتفع! فمن أين كانت ستمول الحكومة الزيادة في رواتب موظفيها؟ سؤال يجيب عليه الخبير الإقتصادي د. رازي الحاج بان “السلطة متخصصة في معالجة المشكلة بمشكلة أخرى. فرفع الأجور من دون حل الأزمة النقدية يزيد التدهور، لأن المشكلة ليست في كمية الأجر، إنما في قيمته الشرائية. وبالتالي زيادة أعداد الأوراق النقدية في التداول لفئة من المجتمع، سيساهم في زيادة التضخم وارتفاع الأسعار وتخفيض قيمة سعر صرف الليرة أكثر. وبهذه الطريقة يمتص التضخم باليد اليمنى الزيادة المعطاة باليسرى، ويترك البلد أمام كمية هائلة من النقود التي لا قيمة لها. وبرأي الحاج إن “رفع الأجور مطلوب، إنما من بعد التصحيح، والإنتقال إلى سعر صرف مرن يلعب بحدود معينة وليس بقفزات كبيرة كالتي نشهدها اليوم، وإصلاح القطاع المصرفي. ذلك أنه في ظل غياب نظام مصرفي موثوق ومحوْكم سيفقد لبنان الإستثمارات الأجنبية والتدفقات النقدية بالعملة الصعبة”. من هنا يرى الحاج أن “الإصلاح النقدي وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وترشيد المالية العامة، وترشيق القطاع العام ومعالجة مشاكل الهدر والفساد… هي المقدمة لأي عملية تصحيح اجور في المستقبل، فمن دونها لا فائدة لرفع الأجور، بل ستكون عبئاً إضافياً على الأفراد والمؤسسات والإقتصاد على حد سواء. وفي حال الإصرار على زيادة الأجور قبل تحقيق الإصلاحات نكرر خطأ سلسلة الرتب والرواتب التي أقرت شعبوياً لإرضاء جمهور الأحزاب قبل انتخابات العام 2018، ومن دون تحديد أو حتى معرفة كلفتها الحقيقية على الإقتصاد.