5 مليارات دولار تطير سنوياً والدولة عاجزة..

 

الدخول ممنوعٌ لمن ليس لديه عمل، إلاّ بتصريحٍ يومي من الأمن… هكذا تبدو القاعدة، لكن في بلد المحسوبيات، فلتطلب من أحد أصحاب السيارات السوداء (المجهزة بعازل الرؤية ـ فوميه) أن يقلّك في رحلةٍ قصيرة الى مرفأ بيروت لترى بأمّ العين ما يُبهرك.

أنت في سيارة «مفيّمة»، مع مرافقٍ لإحدى الشخصيات السياسية المهمة في البلد، وتاجر سيارات يشحنها من الخارج في الوقت نفسه، ستدخل الى المرفأ آمناً، وتكاد أجهزة الأمن أن تبادرك بتأدية التحية. تجتاز بداية حاجزي الأمن العام والجيش اللبناني عند المدخل، فحاجز الجمارك على بعد 10 أمتار تقريباً، ولا تضطر حتى الى إنزال نوافذ سيارتك التي تبدو مألوفة لدى جميع الامنيين والعسكريين على هذه الحواجز، لتصل أخيراً الى الباحة الكبرى حيث يتواجد فيها الموظفون والبوابات والعنابر والمستوعبات وسائقو الشاحنات. يتجرأ أحدهم بالمصادفة ليسأل من ترافقه عن عمله بعد ترجّله من سيارة «الهيبة» فيُظهِر له بطاقة، ربما حزبية، أو أمنية، وينقضي الأمر.

كل شيء هنا يوحي بالفوضى، وحتى بالفساد. يبادر أحدهم الى إخبارك عن قصة «إبريق التعطّل المفاجئ» قاصداً هنا العطل الذي يصيب الـ«system» والـ«scanner» بنحو مفاجئ ومتكرّر، قبل أن يعودا الى العمل أيضاً بنحو مفاجئ وحتى بلا صيانة، غامزاً إلى أعمالٍ ما مشبوهة تحصل خلال هذه الفترة.

ظاهرة متجذرة

تبدو مكافحة التهرّب الجمركي والضريبي، التي تتكرّر بنحو ببغائي في البيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة، ضرباً من ضروب المستحيل في بلد مثل لبنان، انغمس في بداياته بالاحتلال والاستعمار، ما جعل من التهرّب الضريبي ظاهرة متجذّرة في التاريخ، تقوم على مبدأ عدم اعتراف المواطنين بأحقية الضرائب للمحتلّ. ومع استقلال لبنان وإنشاء المؤسسات الرقابية وسنّ قوانين تُحارب الفساد في عهد الرئيس فؤاد شهاب، لم يتسنَ للبناني التأقلم مع هذا الوضع السويّ حتى جاءت الحرب الأهلية، ليستفحل معها الفساد، ويستمر الى الآن، مع عودةٍ قسرية للحال التي كانت سائدة ايام الاستعمار، إذ أنّ معظم المواطنين اليوم يرون أنّهم غير ملزمين بدفع الضرائب لسلطةٍ لا تحقق لهم أدنى مستويات العيش بكرامة، وتستعمر أرزاقهم وتتاجر بلقمة عيشهم.

لا أرقام دقيقة حول كلفة التهرّب الضريبي، حتى لدى الوزارة الأم (وزارة المال) وذلك بسبب سرّية هذه العملية وإحتيالات مرتكبيها. لكن المؤكّد أنّ لبنان يخسر سنوياً المليارات بسبب التهّرب الضريبي. وبحسب تقرير بنك «عوده» عن الفصل الثاني للعام 2018، فإنّ كلفة التهرّب الضريبي بلغت 5 مليارات من الدولارات سنوياً، اي ما يوازي خدمة الدين العام السنوية تقريباً.

وهذا الرقم الذي لا يبتعد عن الأرقام التي ينشرها الخبير الاقتصادي البروفيسور جاسم عجاقة، عن كلفة التهرّب الضريبي التقديرية، والتي، في رأيه، تختلف باختلاف وجوهه. ويؤكّد عجاقة لـ«الجمهورية»، أنّ «التهرّب من ضريبة الدخل يوازي 1.65 مليار دولار، التهرّب الجمركي 1.38 مليار دولار، التهرّب من الضريبة على القيمة المضافة (TVA) 1.35 مليار دولار، التهرّب من دفع فواتير ورسوم المؤسسات العامة 370 مليون دولار، والتخمين العقاري 220 مليون دولار، أي ما يوازي مجموعه 4.96 مليارات دولار كل عام».

«الكونتينرات الملغومة»

بالعودة الى مرفأ بيروت، يشير أحد المطلعين على سير العمل وألية تسلّم البضائع في دردشةٍ مع «الجمهورية»، إلى أنّ من أساليب التهرّب الضريبي في المرفأ «الكونتينرات الملغومة»، أي ما يُعرف بـ«توجيه البضائع»، وعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن أن تتم تعبئة القسم السفلي من «الكونتينر» بأدوات كهربائية ثقيلة وخفيفة، ومن ثم يتمّ توجيهه بطريقة ذكية عبر تعبئة قسمه الأعلى ببضائع أخرى غير إلكترونية كالمفروشات مثلاً، وبالتأكيد هنا الضريبة تختلف، فأن يدفع صاحب المستوعب ضريبة على المفروشات ليس كما لو يدفعها على أجهزة إلكترونية.

ويضيف: «وحدها كلمة «بقاع» بتخرب الدني». نستوضح منه الأمر، فيشرح لنا، ليتبيّن أنّ مجرد أن تكون وِجهة «الكونتينر» إلى البقاع، يتم تحويله إلى «الكشف»، أي إفراغ حمولته والتأكّد من محتوياته، خوفاً من المخدرات، «لتكون كلمة السرّ التي تقِينا شر المستوعبات الملغومة… البقاع» ويختم مكثِراً من هزّ رأسه من الأعلى إلى الأسفل.

الفاتورة المخفّضة

لا تقف الأمور هنا، في المرفأ أو في مطار بيروت الدولي، بل من أحد أبرز وجوه الفساد الجمركي وأخطرها، ما يُعرف بـ«الفاتورة المخفّضة» وهي بمثابة «تهريب مقونن» على حدّ تعبير مصدر جمركي. «فنسبة كبيرة من البضائع التي تدخل لبنان تدخل بفواتير مخفّضة أو مزورة وهي التي تكلّف لبنان نحو 500 مليون دولار سنويّاً».

هذه الفواتير تساعد في التهرّب من الضريبة على القيمة المُضافة داخل السوق، كون الضرائب تُدفع بفاتورة مخفّضة لا توازي أسعار البضائع الحقيقية، وهي المشكلة التي لجأت بلدان عدة لتفاديها عبر الاعتماد على شركات تدقيقٍ عالمية، يمكن أن تكشف على البضاعة في بلد المنشأ، ليأتي المستوعب من الخارج مرفقاً بنتائج الكشف، علماً أنه يحق للجمارك بعد تخليص البضائع ووصولها إلى مستودعات أصحابها الكشف عليها والتأكّد من الأسعار، عبر مراسلة الشركات التي تمّ شراء البضائع منها، وهي الخطوات التي لها أن تقضي على حلقة تهرّب ضريبي واسعة عبر هذه الفاتورة تبدأ بالمستورد، وتصل الى المستهلك، مروراً بالموظف والتاجر والموزِّع والمحال التجارية.

«حاميها حراميها»

يرفض مصدر رسمي في وزارة المال الكشف عن أسماء متورطين في التهرّب الضريبي، إلاّ أنه وبعد الإصرار عليه يقهقه بصوتٍ عالٍ ويذيّل ضحكته بكلمة «معروفين» ويضيف: «أكيد لا أنا ولا انتِ»، ويغمز بطريقة غير مباشرة إلى أنّ «حاميها حراميها».

 

وعند سؤاله عن الحل، يقول لـ«الجمهورية»: «من الصعب جداً جمع الضرائب في بلد مثل لبنان، لأسباب عدة، تبدأ بالتمنّع عن دفع الضرائب والمحسوبيات والتنفيعات، ولا تنتهي بالإعفاءات على الغرامات، والتسويات الضريبية» التي «تحرق سلّاف الالتزام الضريبي»، على حد توصيف المصدر نفسه، الذي يضع التسويات الضريبية في رأس لائحة الأسباب التي تضرب الالتزام الضريبي، ولا يتوانى عن ذكر من يُجري هذه التسويات وهم السياسيون «لأنّهم المستفيدون الأوائل من التسويات الضريبية كون ملكية الشركات المتهرّبة تعود اليهم».

ماذا عن القانون؟ وعلى من تقع مسؤولية ملاحقة المتهرّبين ضريبياً؟

تحدّد المادة الثالثة من المرسوم الاشتراعي الرقم 156 الصادر عام 1983، طريقة الملاحقة الجزائية في التهرّب الضريبي والتي «تجري إما عفواً من قبل النيابة العامة المالية أو بواسطتها بناءً لطلب مدير المالية العام، وينقطع مرور الزمن بمجرد المباشرة بالملاحقة».

وفي هذا السياق، يؤكّد المعني المباشر بهذه الملاحقة، المدّعي العام المالي القاضي علي ابراهيم أنّ النيابة العامة المالية تعيد الى خزينة الدولة من 30 إلى 40 مليار ليرة سنوياً من الضريبة على عقود البيع الممسوحة في العقارات، بعد إعادة النظر في العقود على اعتبار أنّ عدم التخمين الصحيح للعقارات يؤدي حكماً إلى تراجع مداخيل الخزينة من الضرائب، بحكم أنّ الأخيرة هي عبارة عن نسب مئوية على قيمة كل عقار، بالإضافة إلى ملاحقة شركات وهمية وأشخاص متهربين ضريبياً، والتي غالباً ما تكون بتحريك دعوى الحق العام وليس دعاوى شخصية، أو الدعاوى التي تصل النيابة العامة من الضمان الاجتماعي، ومدير المالية العام.

«ملفات التهرّب الضريبي تأخذ الحيز الأكبر من عمل النيابة العامة المالية»، يضيف القاضي ابراهيم لـ«الجمهورية»، ويكشف أنّ «7000 ملف تهرب ضريبي على الأقل ننظر فيها سنوياً، من أصل 8000 ملف نهتم بها كنيابة عامة مالية كل عام». ويرفض ابراهيم تحميل المسؤولية لأحد، «فالنصوص واضحة والمشكلة في التطبيق… ونحن نقوم بدورنا».

وتجدر الإشارة إلى أنّ دور المديرية العامة المالية يقتصر على ضريبة الدخل، والضريبة على القيمة المضافة، والفوائد، والطوابع، ورسوم الانتقال، ما عدا العقارية، والتي هي حصراً من اهتمام النيابة العامة المالية، والتهرّب الجمركي والذي هو من مسؤولية الجمارك كهيئة مستقلة.

بالعودة الى المرسوم 156/83 الذي يحدد التهرّب الضريبي، يتبيّن أنه مع كثرة أبواب التهرّب تتقلّص مواد هذا المرسوم الذي «لم يتم تعديل مواده في الشكل المطلوب»، على حدّ تعبير المحامي علي محبوبة، لتقتصر على ثلاث مواد، إذا ما غُضّ النظر عن المادة الرابعة التي تلغي مادة من مرسوم اشتراعي سابق، والخامسة التي تفيد أنه «يُعمل بهذا المرسوم فور نشره بالجريدة الرسمية».

والى جانب المادة الثالثة السابقة الذكر، تقول المادة الأولى من هذا المرسوم الاشتراعي في فقرتها الأولى: «من تملّص عمداً، أو حاول التملّص، ومن ساعد غيره في التملّص من دفع أي ضريبة، أو رسم أو جزء منها، بأن أغفل ذكر أي دخل من المداخيل الخاضعة لأي من الضرائب والرسوم، أو نظم أو وقّع أو تقدّم ببيانات ناقصة أو كاذبة، أو أعطى معلومات ناقصة أو كاذبة على أسئلة وجهتا إليه الإدارة، أو أعدّ أو سمح لإعداد أو أخفى سجلات أو قيوداً مزيفة، أو تذرّع بأي وسيلة من وسائل الغش والاحتيال، عوقب على كل مخالفة من هذه المخالفات بغرامة تتراوح بين مليون ليرة وعشرة ملايين، أو بالسجن من 6 أشهر إلى سنة. وفي حال التكرار تُفرض العقوبتان على المخالف معاً، وفي جميع الأحوال يتوجب على المخالفات تأدية عشرين ضعف الضريبة أو الرسم المكتوم أو الناقص أو غير الصحيح».

 

ويُورد المرسوم في مادته الثانية تفاصيل التأخّر عن دفع الضرائب بعد إنذار المتأخر.

يلقي المحامي محبوبة اللوم على عدم المتابعة التشريعية في مجلس النواب «الذي يكاد يخلو من المشرعين، ما يجعل من الأبواب التي يكتشفها الفاسدون أكثر بكثير من الأبواب التي يغلقها القانون».

معقّب المعاملات

على أنه في العام 2013 وتبعاً لتعاون تمّ بين مديرية الجمارك (دائرة البحث والتهريب) والمديرية العامة المالية، تمّ تجميد الرقم الضريبي لمجموعة أشخاص ومكلفين ( 55 منهم في بيروت و67 في جبل لبنان) وهي الإحالات التي يحاكم وفقاً لها، بحسب معلومات «الجمهورية»، أشخاص اليوم أمام القضاء، من بينهم معقّب المعاملات ب.م الذي ذاع صيته، وكلّف الدولة أموالاً طائلة. ما يجعل من معقب المعاملات بين الشركات والمؤسسات التي تهتم بجمع الضرائب وجهاً آخر للفساد الضريبي، إذ يصرّح بأموال مخالفة لما يتم تحصيله من الشركات، إما بعلم الأخيرة وإما لا. ويجدر تسليط الضوء على أنّ معقب المعاملات يحصل على رخصته من وزارة المال، بينما لا يمارس عمله تحت سقفها وبالتالي هو خارج دائرة المراقبة.

الوجه الأخير والأخطر

كالتائه، تشعر بنفسك كلما غصت بحثاً في هذا الملف، وكأنك في حقل ألغام، كلما تنبّهت لموضِع أحد الألغام تتفاجأ بالآخر، ولذلك سنكتفي بذكر الوجه الأخير من وجوه التهرّب الضريبي التي تبدو متشعبة وصولاً الى خارج البلاد.

يحذّر مرجع اقتصادي مما يصفه «التهرب الثقيل» وهو لجوء المتمولين الكبار والزعماء والسياسيين الى إفتتاح شركات مسجلة في الخارج للتهرب من الضرائب المحلية، فيدفع صاحب المال أو السلطة بهذه العملية «من الضرائب إذنها»، وفي أي عملية تجارية كبيرة يُحصّل مبالغ زهيدة لشركته في لبنان، ويحوّل البقية وهي الكثير إلى حساباته في الخارج، وبالتالي يتهرّب من الضرائب بنحو احترافي.

ويوضّح هذا المرجع الاقتصادي، «إن كان وزيراً على سبيل المثال لا الحصر يريد أن يمنح لإحدى الشركات مناقصة كبيرة، يحول عمولته من الصفقه إلى شركته الخارجية، وإن كان هناك شركة لبنانية تشتغل وسيطاً تجارياً بين شركة أوروبية وأخرى أفريقية، تقبض عمولتها في الخارج، وبالتالي لا تدفع الضرائب، على رغم من أنها تمارس عملها في لبنان».

ولا ينكر المصدر الرسمي في وزارة المال خطورة هذه الشركات الخارجية، وصعوبة طلب المعلومات من الخارج، ويعوّل على برنامج «الشفافية الضريبية» الذي طورته المديرية العامة لوزارة المال، ويتوقع تطبيقه بدءًا من 2020، «ولهذا البرنامج أن يساعد في جمع المعلومات حتى من الخارج» ويشير إلى أنّ كل القوانين اللازمة لهذا البرنامج وفعاليته تمّ إمرارها في مجلس النواب تراكماً منذ العام 2013 وحتى اليوم.

فهل يمكن للبنانيين أن يعوّلوا على هذا البرنامج أيضاً، ويعلّقوا عليه آمال استعادة الأموال المنهوبة من جيوب صقور المال والسياسة لا من جيب «المواطن المعتّر» الذي ما عاد يعرف للعيش الكريم سبيلاً في بلدٍ اقترب حجم اقتصاده غير الشرعي من حجم الاقتصاد الشرعيّ وربما تجاوزه بأشواط ؟!

المادة السابقةحسن خليل: الوضع المالي لا يدعو الى القلق ابداً
المقالة القادمةسوء الإدارة أُمُّ الأزمات.. والإصلاح بخلفيات خبيثة لن يُجدي