تواظب منظّمة “كلنا إرادة” على ممارسة الدور الذي اختارته بعد انقضاء الانتخابات النيابيّة، من خلال العمل كمجموعة ضغط تسعى إلى متابعة السياسات العامّة المعتمدة والمقترحة، بالإضافة إلى طرح أولويّاتها من خلال أوراق بحثيّة وورش عمل وندوات. آخر إصدارات كلنا إرادة تمثّل في ورقة موقف، للتعقيب على آخر صيغ تعديلات السريّة المصرفيّة، التي أقرّها المجلس النيابي كجزء من مسار الامتثال لشروط التفاهم على مستوى الموظفين، المعقود مع صندوق النقد الدولي. وكما كان واضحًا من الورقة، اتّسم موقف كلنا إرادة بالسلبيّة من هذه التعديلات، التي لا تضمن “عدم استخدام هذا القانون لتغطية عدد من الجرائم والجنح”.
ممارسات غير ديموقراطيّة في البرلمان
ورقة الموقف أشارت بدايةً إلى تأثير بعض الممارسات غير الديموقراطيّة المتبعة في البرلمان اللبناني منذ عقود، والتي أثّرت على الصيغة النهائيّة لقانون تعديلات السريّة المصرفيّة. إذ، وحسب كلنا إرادة، “صوّت النوّاب على عدد من التعديلات على مشروع القانون، لكن المفاجأة كانت في إسقاط هذه التعديلات وعدم وجودها في النص النهائي، ما يؤشّر إلى أنّه جرت إزالتها في الكواليس السوداء الخفيّة في المجلس”.
مع الإشارة إلى أنّ ما تحدّثت عنه كلنا إرادة في الورقة يتطابق بشكل تام مع شهادة عشرات النوّاب الذين حضروا الجلسة، والذين أكّدوا أن فوضى التصويت على التعديلات في الهيئة العامّة لم تسمح بمعرفة الصيغة النهائيّة التي تم إقرارها بخصوص الكثير من بنود القانون، ما ترك هذه المسائل معلّقة للبت بها خلال مرحلة الصياغة لاحقًا. كما كان واضحًا، حسب شهادات هؤلاء النوّاب، أنّ الصيغة النهائيّة اختلفت –وفي العديد من البنود- عن ما تم التصويت عليه في الهيئة العامّة، وهو ما يؤكّد أيضًا ما تتحدّث عنه كلنا إرادة.
تفريغ التعديلات من مفاعليها
باختصار، وحسب الورقة، تثبت التعديلات عدم اكتراث السلطة في التعامل مع الأزمة رغم اشتدادها: “فلقد حاول نواب أحزاب السلطة تفريغ التعديلات من معظم مفاعيلها، بما يبقي عملياً السرّية المصرفية بصفتها القاعدة لا العكس، ويسمح بالتستّر على الجرائم المالية المرتكبة، وتحايلاً على صندوق النقد الدولي للحصول على شهادة حسن سلوك بالتوازي مع زيادة الضغوط الدولية”.
وتعدد الورقة هذه الألاعيب والحيل، “فعلى الرغم من أن القانون قد قدم على أنه يرفع من عدد الجهات التي يمكنها رفع السرية المصرفية، إلا أن الواقع يثبت أن هذه الصلاحية لا تزال بيد هيئة التحقيق الخاصة المستقلة، التي تخضع لسلطة حاكم المصرف المركزي”. كما تشير الورقة إلى أنّ التعديلات عطّلت “صلاحية رفع السريّة التي كان يفترض إعطاؤها إلى لجنة الرقابة على المصارف، عبر ربطها بهيئة التحقيق الخاصّة لدى مصرف لبنان. وهو ما يعدّ تضليلاً، خصوصاً أن هذه الهيئة، وبالتجربة، تقاعست دائماً عن رفع السرّية في قضايا مهمّة. تعطيل صلاحية لجنة الرقابة هو عملياً إعاقة لمسار إعادة هيكلة المصارف وتحديد حجم الخسائر”.
أمّا بالنسبة إلى العقوبات، فتلفت الورقة إلى أنّ الصيغة النهائيّة عملت “على تقليص فعالية العقوبات المُقترحة لردع المتخلّفين عن تطبيقه، وتحديداً المصارف في حال امتناعها عن تأمين المعلومات المطلوبة. وهو ما يجعل العقوبة غير متناسبة مع خطورة الجرم، ويحدّ من فعالية القانون”. وهكذا، يشير كل ذلك إلى أنّ “القانون قد أرسى واقعاً قانونياً معقداً بهدف الحفاظ على مبدأ السرية المصرفية قدر الإمكان، بدلاً من تكريس رفعها بشكل تام، الأمر الذي كان سيشكل إصلاحًا حقيقيًا وضمانة للتغيير في الممارسة السياسية والمالية التي حكمت البلد”.
مع الإشارة إلى أنّ ما تتحدّث عنه كلنا إرادة هنا يرتبط تحديدًا بالمواد التي تحدد نطاق الجرائم المشمولة بصلاحيّات رفع السريّة المصرفيّة التي تم منحها للقضاء، والتي تم ربطها بالجرائم الماليّة الواردة في قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. وهكذا، من شأن هذه الصياغة المعقدّة والملتبسة أن تفرض على القضاء المرور بهيئة التحقيق الخاصّة عند محاولة رفع السريّة المصرفيّة. فقانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب يعطي هيئة التحقيق الخاصّة وحدها صلاحيّة البت بطلبات رفع السريّة المصرفيّة، عند حدوث الجرائم الماليّة التي يعددها هذا القانون.
إشكاليّة الأثر الرجعي
تتطرّق ورقة كلنا إرادة إلى مسألة إشكاليّة أخرى، ترتبط بالغموض الذي “لا زال يكتنف مسألة الأثر الرجعي للقانون لا سيما وأنّ النص، وإن أكد على تطبيق القانون فور نشره في الجريدة الرسمية، إلا أن ذلك لم يُستَتبَع بأي توضيح آخر سواء لجهة تعارضه مع قوانين أخرى أو لجهة تطبيقه بأثر رجعي أم لا. الأمر الذي يتيح الاطلاع على المعلومات المصرفية السابقة لتاريخ إقراره. هذا الغموض يعيق المحاسبة في ظل غياب إمكانية الكشف عن الجرائم ووقائعها، ويهدد بالتالي اعتماد معايير عادلة في عملية إعادة هيكلة المصارف”.
وما تتحدّث عنه كلنا إرادة هنا لا ينطلق من فراغ. فمنذ بداية النقاش حول تعديلات قانون سريّة المصارف في لجنة المال والموازنة، أصّرت جمعيّة المصارف على تضمين هذه التعديلات بنود تمنع تطبيقها بمفعول رجعي، أي تمنع رفع السريّة المصرفيّة عن الداتا التي يسبق تاريخها تاريخ إقرار التعديلات. وبعد نقاش مستفيض داخل اللجنة الفرعيّة التي ناقشت مشروع القانون، تم الاتفاق على عدم التطرّق إلى مسألة المفعول الرجعي على الإطلاق، بما لا يمنع ولا يؤكّد تطبيق القانون لاحقًا بمفعول رجعي. وبذلك، تُرك الباب مفتوحًا لتمنّع المصارف عن تطبيق القانون بمفعول رجعي، طالما أنّها تعتبر أنّ رجعيّة القانون تخالف الدستور، حسب ما أكّد المحامي الذي مثّل جمعيّة المصارف خلال المناقشات. ولهذا السبب، تطالب الورقة “بتفسير مواد القانون بما يفتح المجال نحو تطبيقه بأثر رجعي، بما يضمن الوصول إلى الحقيقة في قضايا كثيرة، وتالياً الحؤول دون تحقيق عفو عام مالي مقنع لكل الجرائم والجنح المالية المرتكبة قبل صدور هذا القانون”.
في خلاصة الأمر، تعتبر كلنا إرادة أنّ المطلوب إصلاح نظام السريّة المصرفيّة، لا بل وإلغاؤه بالكامل، للإنخراط في نهج تجديدي في إدارة الماليّة العامّة وإعادة هيكلتها. كما تشير إلى أنّ هذه الخطوة مطلوبة أيضًا لإعادة هيكلة المصارف وتحديد حجم الخسائر، ومن ثم التوصّل إلى تفاهم نهائي مع صندوق النقد. لكن كما كان واضحًا، حسب الورقة، أتى هذا القانون “ليسحب الكلمة الفصل في موضوع السرّية المصرفية من الوفد الحكومي المفاوض مع صندوق النقد، ويعيد حصرها بيد أركان النظام السياسي والمالي اللبناني”.