فتحت اللجان النيابيّة المشتركة هذا الأسبوع باب مناقشة مشروع قانون الكابيتال كونترول مادّة مادّة، فيما انطلقت لجنة المال والموازنة بالبحث في تفاصيل مشروع قانون الصندوق السيادي. المشترك في المسارين، تمثّل في الشعبويّة والسطحيّة التي حكمت جميع هذه النقاشات خلال الأيّام الماضية، والمعزولة تمامًا عن أي رؤية اقتصاديّة جديّة. أمّا الفارق الأساسي بينهما، فهو أنّ المصالح الماليّة حكمت اصطفافات الكتل النيابيّة في ما يخص مشروع قانون الكابيتال كونترول، فيما حددت الحسابات الطائفيّة شكل الاصطفافات في ما يخص النقاش الدائر حول الصندوق السيادي. وفي جميع الحالات، ظلّت تطوّرات المشهد النيابي تعكس حالة من العبثيّة، التي باتت أشبه بعصفوريّة تشريعيّة بعيدة عن أي منطق مالي.
الكابيتال كونترول: حسابات معروفة وأخرى مشبوهة
منذ أشهر، بات الكابيتال كونترول مطلبًا تمسّكت به المصارف، الباحثة عن غطاء تشريعي يقونن امتناعها عن السداد للمودعين، بعدما سمح غياب القانون في بدايات الأزمة –بتشجيع من المصارف أيضًا- بفتح الباب أمام تهريب ودائع النافذين إلى الخارج. وخلال هذه السنة، ساهمت الدعاوى المقامة ضد المصارف في الدول الأوروبيّة والولايات المتحدة بزيادة إلحاح المصارف وإصرارها على هذا القانون، وخصوصًا بعد أن صدرت أحكام قضت بالحجز على حسابات بعض المصارف أو فرض تحويل مبالغ ماليّة لمودعيها.
إلا أنّ المشهد عاد لينقلب رأسًا على عقب في بدايات هذا الأسبوع، حين انتقلت بعض اللوبيات المقرّبة من المصارف، وخصوصًا الأكثر تشددًا ضد خطّة الحكومة منها، إلى دفع بعض الكتل والنوّاب لعرقلة تمرير القانون في اللجان المشتركة. وهذا تحديدًا ما انعكس في مواقف بعض نوّاب التيار الوطني الحر –الذين ساروا بخلاف توجّه رئيس تكتّلهم- والقوّات اللبنانيّة، وبعض النوّاب الآخرين الأكثر التصاقًا باللوبي المصرفي المؤثّر داخل المجلس. مع الإشارة إلى أنّ هذا التوجّه لم يعبّر بشكل تام عن رغبة جميع المصارف اللبنانيّة، إنما عكس موقف “جناح الصقور” داخل جمعيّة المصارف، الذين يمتلكون أكثر من غيرهم أدوات الضغط والمناورة داخل المجلس. أمّا عنوان المواجهة هنا، فكان ربط القانون بقانوني إعادة هيكلة المصارف وإعادة الانتظام إلى القطاع المالي.
تتعدد النظريّات التي تحاول تفسير هذا الموقف، بين تلك التي تربطه بعمليّات بيع بعض المصارف جزء من عقاراتها وممتلكاتها داخل لبنان، وعدم رغبتها بأي قانون يقيّد استعمالها لعوائد هذه العمليّات، وبين من يرى أن هذه المصارف تحاول عرقلة بعض شروط التفاهم مع صندوق النقد –ومنها الكابيتال كونترول- بهدف التفاوض على مضامين قانون إعادة هيكلة المصارف. إنما في الحالتين النتيجة واحدة: ثمّة حسابات غير بريئة تتحكّم بهذه المواقف، خصوصًا أنّ المعسكر النيابي الممتعض من البحث بالكابيتال كونترول اليوم هو نفسه الجناح الذي ساهم سابقًا بإسقاط خطّة لازارد والتصويب على خطّة التعافي الماليّة الأخيرة، أي الجناح الأكثر حرصًا على المصالح المصرفيّة بالتحديد.
في المقابل، بدا أنّ نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي الأكثر إصرارًا على السير بمناقشة مشروع القانون، مدعومًا بموقف نائب رئيس مجلس النوّاب الياس أبو صعب، الذي حاول أن يمسك العصا من النصف، عبر أخذ قرار البدء بالمناقشة من دون أي مواجهة صريحة مع المواقف التي حاولت عرقلة مناقشة مشروع القانون. كما كان واضحًا إصرار النائب جبران باسيل على تمرير مشروع قانون، بخلاف موقف عدد من نوّاب كتلته، فيما أيّده في هذا الاتجاه نوّاب حزب الله وحركة أمل.
أمّا المفارقة الأهم في المناقشات، فكانت غياب مصرف لبنان عنها، ما حال دون تقديم أي شروحات تقنيّة في ملف يرتبط بشكل مباشر بالوضعين المصرفي والنقدي. فكما هو معلوم، رفض نائب رئيس مجلس النوّاب الياس أبو صعب تمثيل المصرف بأحد نوّاب حاكم مصرف لبنان، مصرًّا على دعوة الحاكم نفسه، فيما يتحاشى الحاكم الحضور داخل المجلس خوفًا من تنفيذ مذكرات الإحضار القضائيّة الصادرة بحقّة. وهنا، برزت مشكلة عدم إلمام المجتمعين بخلفيات بعض المواد أو سبب إدراجها ضمن المسودة، التي أعدها مصرف لبنان، وعدم إلمامهم ببعض التفاصيل المرتبطة بالوضع المالي، والتي يفترض أن تبرر إدراج هذا الرقم أو ذاك ضمن مشروع القانون.
الصندوق السيادي: من سيضع يده على عوائد الغاز؟
بدأت لجنة المال والموازنة بمناقشة مضمون مشاريع القوانين الرامية لتأسيس الصندوق السيادي، الخاص باستثمار عوائد النفط والغاز. وكان من الواضح أن المقترحات التي عُرضت على الطاولة تباينت وفقًا للحسابات الطائفيّة المتربطة بكل طرف، وخصوصًا في ما يتعلّق بالجهة التي ستقوم بالإشراف على الصندوق وإدارته.
مقترح النائب سيزار أبي خليل انطلق من تسليم رئيس الجهوريّة صلاحيّة الإشراف على الصندوق وترؤّس جلسات مجلس إدارته، مع تسليم رئيس الحكومة الصلاحيّات التنفيذيّة، وضم كل من حاكم مصرف لبنان ووزراء الطاقة والماليّة والاقتصاد إلى مجلس إدارة الصندوق. مع الإشارة إلى أنّ المقترح تضمّن بنوداً غريبة، من قبيل ضم المدير العام للقصر الجمهوري والأمين العام لمجلس الوزراء إلى مجلس الإدارة، وهو ما لم يتم تفسير أسبابه بشكل واضح.
في المقابل، طرح كل من النائبين تيمور جنبلاط وعلي حسن خليل مقترحات مضادّة تضع الصندوق تحت إشراف وزارة الماليّة. وفي هذه الاقتراحات، طلب جنبلاط أن يكون الصندوق مؤسسة عامّة مستقلّة، يكتفي وزير الماليّة بالإشراف عليها، على أن تُدار الاستثمارات من قبل مجلس إدارة يتناوب أعضاؤه على ترؤّسه. فيما طلب علي حسن خليل بتسليم وزير الماليّة صلاحيّات موسّعة في إدارة الاستثمارات وتحديد أولويّاتها، وفقًا لمعايير يحددها القانون. وفي كل هذه المقترحات، بدا أنّ كل طرف يحاول الدفع بالاتجاه الذي يزيد من صلاحيّات المناصب المحسوبة على طائفته، في إدارة هذا الصندوق.
عمليًّا، يشكك كثيرون بجديّة النقاشات التي تجري في القانونين معًا، وبإمكانيّة الوصول إلى صيغ نهائيّة منهما في القريب العاجل. إذ أنّ الفراغ الرئاسي يجعل من التئام الهيئة العامّة لإقرار القوانين مسألة إشكاليّة، ومن المستبعد أن يخوض رئيس المجلس النيابي مواجهة فعليّة لإقرار مشروع قانون غير شعبي كالكابيتال كونترول، أو غير مستعجَل كمشروع قانون الصندوق السيادي. ولهذا السبب، لا يوجد ما يدفع فعلًا باتجاه التسريع بإنجاز الصيغة النهائيّة من القانونين، سواء في اللجان المشتركة، التي تسير فيها مناقشات الكابيتال كونترول ببطئ شديد جدًا، أو اللجنة الفرعيّة المنبثقة عن لجنة المال والموازنة، التي ستناقش تفاصيل مشروع قانون الصندوق السيادي.