تمكَّنَ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، من خفض سعر صرف الدولار، أول يوم أمس، بنحو 25 ألف ليرة، وبعبارة واحدة مُكَرَّرة هي “بيع الدولار على سعر منصة صيرفة”، الذي رفعه الحاكم من 83500 إلى 90000 ليرة. وينسجم التدخّل في السوق مع الهدف الذي أعلنه سلامة مراراً، وهو توحيد أسعار الصرف، كمدخل أساسي لتهدئة السوق وتمهيد الطريق للاتفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي. فتوحيد أسعار الصرف هو مطلب رئيسي للصندوق. لكن هل سيحقّق سلامة هدفه وسط تسارع تقدّم الدولار واتجاه القطاعات نحو التخلّي كلياً عن التسعير بالليرة؟
هوامش الأسعار تتّسع
اللافت في ما وصلت إليه الأزمة راهناً، اتّساع هوامش أسعار الصرف بشكل متزايد، في حين كانت الهوامش أضيق منذ بداية الأزمة في العام 2019. وشهدت الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري محطّات مقلقة تعطي مؤشّرات سلبية على ما تخبّئه الأشهر المقبلة، أهمّها الإضرابات المستمرة للمصارف، والتي تضغط أكثر على سعر الصرف، وكذلك إفراج مصرف لبنان عن كميات إضافية من الليرة في السوق عبر المضاربين على العملة.
تسارع ارتفاع الدولار تظهره الأرقام، فبين تموز 2019 حين بدأ سعر الصرف بالتحرّك، وبين نهاية 2020، وصل سعر الصرف إلى نحو 8500 ليرة. وفي نهاية العام 2021 وصل سعر الصرف إلى نحو 27500 ليرة. أما في نهاية العام 2022، فوصل سعر الصرف إلى نحو 42500 ليرة، ليصل في بداية العام 2023 إلى نحو 48500 ليرة وينطلق وصولاً إلى نحو 140000 ليرة في آذار الجاري. والانعطافة الخطرة لا تكمن فقط في تسارع الارتفاع بين عام وآخر، بل في ضيق الهوامش بين شهر وآخر وصولاً إلى المقارنة بين أسبوع وآخر. وانتهاءً بالمقارنة بين يوم وآخر وساعة وأخرى، إلى حين تدخّل حاكم مصرف لبنان، وهو أمرٌ كان متوقَّعاً.
محاولة توحيد سعر الصرف
انغماس سلامة في السوق لم يعد سرّاً بعد إنكاره في بداية الأزمة إمكانية تدخّله وجدواه، نظراً لعدم طباعة المصرف المركزي للدولار. وأعطى الحاكم مبرِّراً جوهرياً لتدخّله، وهو توحيد أسعار الصرف ومنع التلاعب بالليرة داخل السوق السوداء. ووسيلته لذلك هو منصة صيرفة التي أخذ دولارها بالصعود بمعدّلات قياسية أسوة بدولار السوق. وازداد التشابه بين المنصة والسوق إلى حدّ التطابق في الوصول إلى مستوى معيّن في الأسعار، لا ينخفض الدولار تحته. فدولار المنصة ارتفع من 83500 ليرة إلى 90000 ليرة، ولم ينخفض بانخفاض دولار السوق إلى نحو 105000 ليرة. ما يعني أن الهامش بين دولار المنصة والسوق لم يعد كبيراً.
هذا المسار رسمه سلامة منذ نيسان 2022 حين جرى توقيع الاتفاق المبدئي على التسهيل الائتماني، بين لبنان وصندوق النقد. فحينها أعرب سلامة عن أمله في أن يسهم الاتفاق في توحيد أسعار الصرف. وفي شهر تشرين الثاني من العام الماضي، أكّد سلامة أن اعتماد سعر 15 ألف ليرة كسعر صرف رسمي اعتباراً من بداية شباط 2023، يدخل في سياق عملية توحيد أسعار الصرف المتعدّدة. ورأى الحاكم أن بشائر التوحيد تكمن في أن “يصبح لدينا سعران، الـ15 ألفاً وصيرفة، فتوحيد سعر الصرف لا يمكن تحقيقه ضربة واحدة، لذلك ستكون هذه المرحلة الأولى لغاية أن تصبح صيرفة هي من يحدد السعر”.
لكن توحيد سعر الصرف يحتاج من جملة ما يحتاجه إلى عامل أساسي، وهو الثقة التي تساعد على طرح المزيد من الدولارات في السوق، أو حمل الليرات بلا خوف، حتى وإن كان هناك هامش بسيط في سعر الصرف، وهو ما كان موجوداً قبل الأزمة لكن لم يكن ملاحظاً نظراً لعامل الثقة. فكان سعر صرف الدولار يتراوح رسمياً بين 1507 و1520 ليرة، والناس كانت تتداول الدولار بسعر 1500 ليرة، أي بأقل من الحد الأدنى الرسمي، ولم يكن أحداً يُفاصِل في بضع ليرات نظراً للثقة والاستقرار.
أزمة سيولة
نظرياً، يريد سلامة جعل صيرفة هي الميدان الأوحد لتداول الدولار. لكن المشكلة تكمن في عدم قدرة المنصة على تأمين السيولة الكافية لتغطية الطلب المتزايد، وسط نقصٍ متنامٍ للأوراق النقدية الخضراء. فالمزوِّد الأبرز للسوق بالدولار، هو التحويلات الخارجية التي لا تنزل كلّها إلى السوق رغم إغراءات المركزي بالليرات الإضافية، وهو العامل الذي يدفع سعر السوق للارتفاع، على عكس ما يظهره سلامة.
ولأن الحركة الاقتصادية لا تلبّي حاجة السوق، وما يخرج من دولارات للاستيراد لا يعود كلّه إلى لبنان، بل يبقى معظمه خارجاً، فضلاً عن تقليص المواطنين عرض الدولارات واقتصار الصرف اليومي على أرقام خجولة، تجعل النقص في السوق كبيراً.
المقلق، هو أن اتجاه بعض القطاعات الاقتصادية لدولرة أسعارها، ومطالبة البعض الآخر بالدولرة، كالصيدليات ومحطات المحروقات، يفاقم بزيادة الطلب على الدولار في السوق من قبل المستهلكين والتجار، ما سيرفع أسعار الدولار ويدفع المصرف المركزي مجدداً إلى ضخ سيولة إضافية بالليرة، للحصول على الدولار وتأمينه للمستوردين. أي سنبقى بالدوامة نفسها التي تزيد سعر الدولار مع استمرار دورانها.
بالتوازي مع ما يحصل، انخفضت توقّعات الجمهور الإيجابية حيال تراجع سعر الصرف. فمن اعتاد ارتفاع الأسعار إلى مستويات كانت تعتبر خيالية ومستحيلة، سيعتاد أي رقم يبلغه الدولار، وهو ما حصل منذ يومين. فالجميع أيقن أن لا سقف لأسعار الدولار وأن اعتماده كعملة رسمية في الظل، مسألة وقت ليس إلاّ، حين تسمح كافة الوزارات للقطاعات المسؤولة عنها بالتعامل بالدولار، لتبقى الليرة عملة الإدارات الرسمية فقط.